مقالات

افساد زراعة القطن المصري إهمال او مخطط

افساد زراعة القطن المصري إهمال او مخطط

بقلم القيادي العمالى: محمدعبدالمجيدهندى

نطالب باتخاذ إجراءات عاجلة لإصلاح خطايا الماضي الأسود فيما يتعلق بملف صناعة وزراعة القطن، الذي تم خسف الأرض به وتحويله من درة تاج الاقتصاد المصري إلى منتج من الدرجة العاشرة، في مقابل إعلاء مصلحة إسرائيل على حساب مصالح مصر القومية، بفرض الخامات الصهيونية على ما تبقى من مصانع نسيج مصرية ضمن اتفاقية “الكويز”

أن التاريخ يؤكد أنه لا يوجد محصول زراعى احتل هذه المكانة فى حياة المصريين كما كان القطن الذي كان الملاذ الآمن لكل أسرة مصرية فى ريف مصر.. مرت عليه عصور كثيرة كان فيها ملكًا متوجًا ينتظره الجميع، ثم مرت عليه عصور أخرى تراجع فيها وأصبح نسيًا منسيًّا.
ذهب مصر الأبيض
لم يكن القطن هو مصدر الرخاء والاكتفاء فى حياة الفلاحين فقط، بل كان يمثل الذهب الأبيض الذى يحتل قائمة الصادرات المصرية للأسواق الخارجية. كان القطن الخام أهم وأغلى صادرات مصر. ومع تطور الحياة والزمن نشأت صناعات عريقة على ضفاف النيل تعتمد على محصول القطن منها صناعة الغزل والنسيج والزيوت والصابون والبويات والورق، وظهر رجل عظيم فى فترة الأربعينيات اسمه طلعت حرب استطاع أن يخلق من هذه الصناعات كيانات ضخمة جمعت فى ريف مصر بين الإنتاج الزراعى والوحدات الصناعية فى منظومة حضارية جديدة دفعت بالمجتمع المصرى إلى آفاق أوسع من التطور والإنتاج.
مصدر الرزق لمصر والمصريين
فى عصور مختلفة كانت صادرات القطن المصرى هى مصدر الرخاء أو التراجع فى مسيرة الاقتصاد المصرى، وكانت أسعاره العالمية تحتل الصدارة فى اهتمام الدولة المصرية.. كانت قناة السويس.. وصادرات القطن.. والسينما هى أهم مصادر مصر من العملات الأجنبية، وبقيت قناة السويس، وانهارت زراعة القطن وصناعات الغزل والنسيج، وسادت سينما المقاولات.
فى يوم من الأيام كانت المساحات المزروعة بالقطن فى مصر تزيد على مليون فدان سنويًّا فى أقل التقديرات. وإذا علمنا أن هذه المساحة تمثل خمس الأراضى الزراعية فى مصر، لأدركنا إلى أى مدى كانت أهمية محصول القطن.
ثورة يوليو تستخدم القطن في صفقات السلاح.. والانفتاح يدمره
وكانت الثورة حريصة على بقاء مكانة القطن المصرى، خاصة أنه كان يمثل سلعة تصديرية مهمة تعادل البترول والسلاح، واستخدمت ثورة يوليو القطن كورقة رابحة فى صفقات السلاح، خاصة مع دول الكتلة الشرقية فى زمن الحرب الباردة، وتوسعت مصانع الغزل والنسيج مع مشروعات التنمية الصناعية فى مصر فى الخمسينيات والستينيات. ومع سياسة التحكم فى زراعة القطن والدورات الزراعية حافظ القطن على مكانته فى خريطة الزراعة المصرية، ولكن مع سياسة الانفتاح الاقتصادى وتوابعها من الخصخصة إلى بيع القطاع العام منذ بداية السبعينيات بدأت رحلة التراجع فى زراعة القطن فى مصر.
بدأت هذه الرحلة بسياسة العدوان الوحشى على الأراضى الزراعية من أجل المبانى والعقارات، فقد شهدت مصر فى السنوات الماضية أكبر مذبحة للأرض الزراعية الطينية التى أقيمت عليها العقارات والبيوت فى كل أرجاء المحروسة، وكانت هذه الأراضى من أجود الأراضى الزراعية.
فى تقديرات كثيرة أن مصر خسرت فى السنوات الثلاثين الماضية أكثر من مليون فدان من أجود الأراضى الزراعية تحولت إلى مبانٍ، وكان العدوان على الأرض الزراعية أول عدوان على محصول القطن.
القطن أم الكانتلوب؟!
ومع سياسة التوسع فى المبانى فى الأرض الزراعية ساد اعتقاد خاطئ ما زال ساريًا حتى الآن، وهو أن زراعة الكانتلوب أهم من زراعة القطن، وأن الخيار والفراولة أهم من صناعة النسيج، وأن إنتاج هذه المحاصيل يمكن أن يحقق عائدًا أكبر بكثير من صادرات القطن والصناعات القائمة على زراعته فى أرجاء المحروسة. والشىء الغريب أن دعاة هذه النظرية نسوا أشياء كثيرة فى هذا السياق.. نسوا أن فى مصر أكثر من 3000 منشأة صناعية للغزل والنسيج تضم استثمارات تزيد على 17 مليار جنيه، وتبلغ صادراتها السنوية أكثر من 3 مليارات جنيه.
نسوا أن الخيار والكانتلوب لا يمكن أن يكونا بديلاً لمحصول رئيسى مثل القطن يقوم عليه اقتصاد مصر فى أكثر من مجال، وأن تراجع حجم صادراتنا منه يمكن أن يمثل خسارة كبيرة للاقتصاد المصرى.
ونسوا أن هناك مئات الآلاف من العمال فى الأراضى الزراعية ومئات الآلاف فى المصانع الذين تعتمد حياتهم على محصول القطن زراعة وإنتاجًا وحلجًا وغزلاً وصناعة وتوزيعًا وتصديرًا، وكانت النتيجة انهيار زراعة القطن وانهيار صناعة الغزل والنسيج فى ضربة واحدة.
جماعات المصالح
مع مشروعات الانفتاح وبرامج التوسع فى الاستيلاء على الأراضى الزراعية للبناء، كان ولا بد أن يتراجع الاهتمام بزراعة القطن وإنتاجه وتصنيعه وتصديره.
وظهرت طبقة من أصحاب المصالح استولت على مساحات كبيرة من الأراضى التى تحولت إلى مشروعات استثمارية عقارية ما بين بيوت ومنتجعات وشقق.. وفى سنوات قليلة أكلت المبانى عشرات الآلاف من الأفدنة فى كردونات المدن والقرى والنجوع. من بين هذه الطبقة أيضًا كان هناك فريق آخر استغل الفرصة وانقض على مساحات كبيرة من الأراضى فى المحالج فى جميع المحافظات، وهنا أيضًا تم بيع محالج القطن فى صفقات سريعة.
على جانب آخر تم بيع عدد كبير من مصانع الغزل والنسيج ضمن برنامج الخصخصة، وتحولت هذه المصانع إلى عقارات، أو تم تجديدها لحساب مستثمرين مصريين وعرب وأجانب،.
تراجع عائدات الذهب الأبيض
نتيجة كل ما سبق، لم يعد محصول القطن يحقق عائدًا اقتصاديًّا يشجع الفلاح على زراعته، وتراجعت المساحات المخصصة لزراعته، على حساب زراعة الأرز.
ففى عام 89/90 كانت مساحة الأراضى المزروعة بالقطن مليون فدان، انخفضت إلى 550 ألف فدان فى موسم 2002/2003، وكان إنتاج مصر من الأقطان فى الثمانينيات يتراوح بين 7 و8 ملايين قنطار سنويًّا، انخفضت إلى 4.5 مليون قنطار فى عام 2003، وهى الآن أقل من ذلك بكثير.
وخلال عشرين عامًا أصبح القطن فى آخر قوائم الإنتاج الزراعى فى مصر، ولم تعد صادرات مصر من القطن للأسواق الخارجية تتجاوز 150 مليون دولار، وساعد على انهيار محصول القطن أن الدولة كانت تتلاعب فى أسعار توريده، ففى عام 2003 بلغ سعر القنطار 1300 جنيه، ولكنه انخفض إلى 600 جنيه فى العام التالى مباشرة 2004، ووصلت خسائر القطن فى ذلك الوقت إلى 2.3 مليار جنيه فى عام واحد.
وأمام هذه الظروف الصعبة هرب الفلاح المصرى من زراعة القطن، وبدأ يبحث عن محاصيل أخرى أقل فى التكلفة مثل البرسيم الذى يستخدم غذاء للماشية. ساعد على هذا الانهيار ارتفاع إيجارات الأراضى والتى تجاوزت مبلغ 3000 جنيه للفدان الواحد بعد تحرير العقود الإيجارية بين الملاك وأصحاب الأراضى والفلاحين، وهنا ارتفعت تكاليف زراعة القطن أمام ارتفاع أسعار الأسمدة والمبيدات وتكاليف الزراعة. وعلى جانب آخر كانت صناعة الغزل والنسيج تواجه ظروفًا أصعب أمام قلة الإنتاج وتراجع الصادرات وغزو المنسوجات الصينية للأسواق المصرية. ومع هذا التراجع زاد حجم الديون على شركات الغزل والنسيج حتى وصلت إلى 8 مليارات جنيه، وهنا لم تجد الحكومة حلاًّ غير بيع هذه المصانع.
مصالح كبار المستوردين
بقيت بعض الأسواق للقطن المصرى فى دول آسيا مثل الصين والهند وباكستان. وهذه الدول تشترى القطن الخام وتعيد تصديره لنا فى صورة منسوجات رخيصة، رغم أن مصانعنا كانت الأولى بذلك، خاصة أن مئات الآلاف من العمال يعملون فى هذه المصانع وألقت بهم الدولة فى الشوارع تحت إغراءات المعاش المبكر.
لقد أهملنا زراعة القمح لنفتح باب الاستيراد على مصراعيه للمستوردين، وأهملنا زراعة القطن لكى نزرع الخيار والكانتلوب، وأهملنا صناعة المنسوجات لكى نستورد المنسوجات من الصين. إنها خيوط متشابكة تصل جميعها إلى مجموعة من أصحاب المصالح الذين يرسمون السياسات التى تخدم مصالحهم وتحقق أهدافهم فى المزيد من الثراء على حساب الشعب الغلبان.
وظهرت إسرائيل في الصورة
وأمام هذه الانهيارات المتتالية فى محصول القطن وجدنا القطن الإسرائيلى يغزو الأسواق المصرية وينافس القطن المصرى العريق داخل وطنه. وبعد أن كانت مصر من أهم الدول المصدرة للقطن فى العالم، بدأت تستورد الذهب الأبيض من الهند وإسرائيل وبعض دول إفريقيا!! بل إن الجمهوريات الإسلامية فى الاتحاد السوفييتى السابق أصبحت الآن من أهم الدول المصدرة للقطن، فى حين بقيت مصادره الأصلية تحافظ على إنتاجه، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، حتى وإن قدمت دعمًا ماليًّا للمنتجين؛ حتى لا تخسر إنتاجها وصادراتها. ولم يكن غريبًا أن تدعم الخزانة الأمريكية منتجى القطن بمبلغ 12 مليار دولار سنويًّا؛ حتى تحافظ على أسواقها الخارجية وصناعتها المحلية.
ما هو المخرج من الكارثة؟
والآن نحن أمام جريمة كبرى تتحمل الحكومات المتعاقبة مسئوليتها أمام انهيار زراعة القطن فى مصر. إن الفلاح المصرى لم يعد راغًبا فيه، بل إنه نسى أيامه ولياليه أمام الأزمات والمشكلات وارتفاع تكاليف الزراعة.. المصانع تم بيعها.. والمحالج تحولت إلى منتجعات وبيوت وشقق على النيل.. والأسواق الخارجية نسيت اسمًا عريقًا كان يسمى “القطن المصرى”. كانت المنسوجات القطنية التى تحمل اسم القطن المصرى من أغلى وأجمل المنسوجات فى العالم.
والآن بعد أن توقف الإنتاج، وتوقفت الصناعة، وتراجع حجم الصادرات، ما هو الحل؟
هل نستسلم لما حدث؟ وهل نترك هذا المحصول المهم يضيع من بين أيدينا؟ كيف يمكن أن ننقذ ما يمكن إنقاذه حتى يسترد القطن شيئًا من مكانه وزمانه اللذين ضاعا؟
بصيص الأمل
نقطة البداية أن تدعم الدولة الفلاحين لكى يعودوا مرة أخرى إلى زراعة القطن؛ لأن تكاليف زراعة الفدان تزيد على ثلاثة آلاف جنيه، وهذا يتطلب دعمًا فى أسعار المبيدات والأسمدة، مع دراسة أنواع الآفات والحشرات الجديدة التى أصابت القطن المصرى.
لا بد من وضع حد أدنى لسعر توريد الأقطان من الفلاحين، بحيث يتأكد الفلاح أن الدولة مسئولة عن المحصول بالسعر المناسب.
لقد رفعت الدولة يدها عن شراء المحصول من الفلاحين، وترتبت على ذلك نتائج سيئة أبسطها أن أكياس القطن تناثرت فى البيوت أشهرًا طويلة تحت الشمس والأمطار، ولم تجد من يشتريها، بل إن الأسوأ من ذلك تلك الأنواع من البذور التى استوردتها الحكومة، وأنتجت أقطانًا ملوثة لم تجد لها مكانًا فى الأسواق الخارجية أو الداخلية.
لا بد أن تعود مصر منتجة للقطن طويل التيلة، فما زال يتمتع بسمعة دولية حتى الآن رغم كل ما حدث للقطن المصرى من مخاطر.
إن انسحاب الحكومة تمامًا من عمليات التسويق الزراعى خطأ فادح. لقد حررت الدولة العلاقة الإيجارية بين المالك والمستأجر فى الأراضى الزراعية، ثم حررت أسعار الأسمدة وتركتها للمضاربات، ثم حررت أسعار المبيدات وتركتها للأسعار العالمية، وفوق ذلك كله رفضت أن تتسلم المحاصيل من الفلاحين، وكان الحل الوحيد أن يهرب الفلاحون من أراضيهم.

أننا نقدر حجم المهام الجسام التي يتولاها السيسي على عاتقه، دون مساندة جادة من سياسيين لا يقدرون حجم المسئولية الكبري التي يفترض بهم حملها والتضحية من أجلها بكل قطرة عرق ودم، لكن هؤلاء المسئولين يبدو أنهم جميعًا في حاجة لـ “نقل دم” كي يبدءوا في استعادة الوعي بمدى خطورة المرحلة التي تمر بها البلاد.
أن ملف القطن يجب أن يكون له الأولوية القصوي من أجل تدوير عجلة الاقتصاد المصري في إطار من الاستقلالية الضائعة منذ عقود مضت.
لذا نشدد على منع استيراد ولو قنطار قطن واحد مع الاقتصار فقط على استيراد ماكينات الغزل والنسيج لحين عودة الروح للصناعة المصرية (التي تعاني من غيبوبة عمرها اربعين عامًا) مع إعطاء الأفضلية المطلقة للقطن المصري وزراعته والصناعات القائمة عليه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock