دين ودنيا

الترويح المباح عن النفس

أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف
متابعة د/ محمد الشيخ

ديننا دين الفطرة الإنسانية النقية الصحيحة “فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها” (الروم : 30)، وشريعتنا الغراء وسطية سمحة لا إفراط فيها ولا تفريط ، لا عنت فيها ولا تكلف ولا مشقة ولا غلو ، ولا تسيب أو انحلال قيمي أو سلوكي ، فعَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيّدِيِّ (رضي الله عنه) – وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وسلم) – قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ (رضي الله عنه) فَقَالَ : كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ ، قَالَ : سُبْحَانَ الله ! مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وسلم) يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْي عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وسلم) عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ (رضي الله عنه) : فَوَالله إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ الله ، فَقَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وسلم): وَمَا ذَاكَ ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْي عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا ، فَقَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي ، وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ ، وَفِي طُرُقِكُمْ ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ”، (أخرجه مسلم).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : بَيْنَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِحِرَابِهِمْ دَخَلَ عُمَـرُ ، فَأَهْـوَى إِلَى الْحَصَى فَحَصَبَهُمْ بِهَـا ، فَقَالَ : ” دَعْهُمْ يَا عُمَرُ ” ، (أخرجه البخاري).
وعَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ : رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتُرُنِى بِرِدَائِهِ ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِى الْمَسْجِدِ ، حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّذِى أَسْأَمُ” ، (أخرجه البخاري).
فإن هذه الأحاديث في جملتها تؤكد أن في ديننا العظيم فسحة وسعة للترويح عن النفس في حدود المباح دون إفراط أو تفريط .
مع تأكيدنا الواضح على نبذ الإفراط والتفريط والغلو أو التقصير , فكلا طرفي النقيض ذميم , وقد قالوا : لكل شيء طرفان ووسط ، فإن أنت أخذت بأحد الطرفين مال الآخر , وإن أنت أمسكت بالوسط استقام لك الطرفان ، قال الإمام الأوزاعي (رحمه الله) : “ما من أمْرٍ أمَرَ الله به إلّا عارض الشّيـطان فيه بخصلتين ولا يبــالي أيّهمــا أصاب : الغلـــوّ أو التّقصير”.
ونؤكد أننا لن نستطيع أن نقضي على التشدد ونقتلعه من جذوره ما لم نواجه بنفس القدر التسيب والانحراف القيمي والأخلاقي ، فلكل فعل رد فعل مساو له في النسبة ومضاد له في الاتجاه , والتطرف يولد التطرف المضاد ، والوسطية حصن حصين للأفراد والمجتمعات والأمم ، لذا كان ديننا دين الوسطية والاعتدال في الأمور كلها ، وقد قيل لسيدنا عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) : حب التناهي شطط خير الأمر الوسط ، هل تجد هذا المعنى في كتاب الله (عز وجل) ، فقال : نعم ، في أربعة مواضع , حيث يقول الحق سبحانه : {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا } (الإسراء : 29) ، وقوله تعالى : {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان: 67) ، وقوله تعالى : {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (الإسراء : 110) ، وقوله تعالى : {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} (البقرة : 68).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock