دين ودنيا

ماذا عن حق الجار ” الجزء الثانى “

إعداد / محمـــد الدكــــرورى

ونكمل الجزء الثانى مع حق الجار، وقد توقفنا مع الإحسان إلى الجار، فإن الإحسان إلى الجيران يشمل كافة وجوه الإحسان، ولو كان شيئا يسيرا أو حقيراً، لما له من أثر في تقريب النفوس وإزالة الأحقاد، وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال “يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاه ” وفرسن الشاه هو حافرها، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله، أي لا تحقرن أن تهدي إلى جارتها شيئا ولو أنها تهدي ما لا ينتفع به في الغالب، ويقول أبو ذر الغفارى رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ” يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك ” رواه مسلم، فكان أبو ذر رضي الله عنه إذا طبخ لحما أكثر ماءه، وأهدى إلى جيرانه، وقال إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني إذا طبخت مرقا فأكثر ماءه، ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف، ويقول مجاهد ” كنت عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وغلام له يسلخ شاة، فقال يا غلام إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي، حتى قال ذلك مرارا، فقال له كم تقول هذا؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يوصينا بالجار حتى ظننا أنه سيورثه” رواه أبو داود والترمذي، وإن حسن الجوار باب من أبواب الجنة، وسوؤه باب من أبواب النار، ولذا نبه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على عظم خطر إيذاء الجار، وأثره في إذهاب ثواب الأعمال الصالحة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رجل يا رسول الله، إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها.

غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها أى باللسان، فقال صلى الله عليه وسلم “هي في النار” قال يا رسول الله، فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها، وأنها تتصدق بالأثوار من الأقط، والأقط هو اللبن المجفف، وهو من الشيء الزهيد، ولا تؤذي جيرانها، فقال صلى الله عليه وسلم “هي في الجنة” رواه أحمد، فما نفع تلك المرأة كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها لأنها تؤذي جيرانها، وهذه نفعها الإحسان وعدم إيذاء الجار، وإن الناظر في واقع الناس اليوم يرى كيف أن الدنيا قد ألقت بظلالها على حياتهم، فعصفت بكثير من الأخلاق والقيم، وأنست كثيرا من الحقوق والمثل، فتباعدت القلوب، وتنافرت النفوس، حتى رأينا من عق أباه وقطع أخاه، وهجر جاره، ورأينا كذلك جارين في حي واحد، بل في بناية واحدة يتجاوران سنوات عديدة، لا يدخل أحدهم منزل جاره، ولا يتفقد أحواله خلال هذه المدة، وقد يسافر الجار أو يمرض أو يحزن أو يفرح، وجاره لم يشعر بذلك، ولم يشاركه في أفراحه وأتراحه، بل قد ترى الشقاق والنزاع محتدما بين الجيران، والعداء ظاهرا بينهم بالقول أو الفعل، فأضيعت، وللأسف الحقوق، وقام بين الناس سوق القطيعة والعقوق إلا من رحم الله تعالى، ولا بد لتدارك ذلك من وقفة نراجع فيها أنفسنا، ونصحح فيها أحوالنا، ونعمل من خلالها على تلمس حاجات جيراننا، والإحسان إليهم، وكف الأذى عنهم، ولقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه البخارى، ضرب لنا أروع الأمثلة في كف الأذى عن الجار وحسن الجوار، فعن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها ذات ليلة.

صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرصا من شعير، فتقول السيدة عائشة رضى الله عنها فأقبلت شاة لجارنا داجنة يعني لا تجد حرجا من الدخول في البيوت، فدخلت ثم عمدت إلى القرص فأخذته، ثم أدبرت به، فبادرتها الباب، فقال صلى الله عليه وسلم “خذي ما أدركت من قرصك، ولا تؤذى جارك في شاته” فانظروا إلى تربيته صلى الله عليه وسلم لأهل بيته, وحثه لهم على حسن التعامل مع الجار وكف الأذى عنه حتى في شاته التي تتعدى على طعام الآخرين، وإنه ليس من حسن الجوار بين الجيران أن يرد الجار على جاره الأذى بمثله، والإساءة بأختها، فقد جاء رجل إلى ابن مسعود رضي الله عنه فقال له إن لي جارا يؤذيني ويشتمني ويضيق علي فقال له ابن مسعود رضي الله عنه “إن هو عصى الله فيك فأطع الله فيه” وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول “ليس حسن الجوار كف الأذى، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى” فإذا ابتليت بجار سوء يؤذيك فعليك بالصبر، فإنه مفتاح الفرج، وعلى الأخيار السعي في الإصلاح بين المتنازعين لأن الجار أولى بالعفو عن خطئه، والتغاضي عن زلته، خصوصا إذا كان ذا فضل وإحسان، وتذكر أيها الجار أن صبرك على جارك الذي يؤذيك مما يحبه الله سبحانه وتعالى، فعن أبي ذر الغفاى رضي الله عنه قال، قال صلى الله عليه وسلم “إن الله يحب ثلاثة، ويبغض ثلاثة، وذكر من الثلاثة الذين يحبهم، والرجل يكون له الجار يؤذيه جاره، فيصبر على أذاه، حتى يفرق بينهما موت أو ظعن” رواه أحمد، وكذلك فإن عجزت عن الصبر على إيذاء جارك.

وعن ملاقاة الإساءة منه بالإحسان، فعليك بوصية الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في التعامل مع مثل هؤلاء الجيران الذين يؤذونك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، جاء رجل إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يشكو جاره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم “اذهب فاصبر” فأتاه مرتين أو ثلاثا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم “اذهب فاطرح متاعك في الطريق” فطرح متاعه في الطريق، فجعل الناس يسألونه، فيخبرهم خبره، فجعل الناس يلعنونه، فعل الله به وفعل، وفي لفظ آخر فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، لقيت من الناس، قال صلى الله عليه وسلم “وما لقيت”؟ فقال الرجل يلعنونني، فقال صلى الله عليه وسلم “قد لعنك الله قبل الناس” فقال إني لا أعود، ثم ذهب إلى جاره، فقال له ارجع لا ترى مني شيئا تكرهه، فجاء الشاكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم “ارفع متاعك فقد كفيت” رواه أبو داود والحاكم، وقيل أنه مر الإمام مالك بن أنس رحمه الله على امرأة وهي تنشد تقول، أنت خلى وأنت حرمة جارى، وحقيق علي حفظ الجوار، وإن للجار إن تغيب عينا، حافظا للمغيب والأسرار، وما أبالي إن كان للباب ستر، مسبل أم بقى بغير ستار، فقال مالك علموا أهلكم هذا و أمثاله، وإن جملة ما يحق لجارك عليك أن تسلم عليه إذا لقيته، وإن مرض عدته، وإن مات شيعته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه، وإذا أصابه خير هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزيته، ولا تستطل عليه بالبنيان، فتحجب عنه الريح إلا بإذنه.

ولا تؤذه بقثار ريح قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فأهدى له, فإن لم تفعل فأدخلها سرا، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده، وجماع حقوق الجار على جاره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ” أو قال ” لأخيه ما يحب لنفسه” رواه مسلم، وقد اختلفت عبارات أهل العلم في حد الجوار المعتبر شرعا، فمما قيل في ذلك هو أن حد الجوار أربعون دارا من كل جانب، وقد جاء ذلك عن السيدة عائشة رضي الله عنها، كما جاء عن الزهرى والأوزاعى، وقيل أنه عشرة دُور من كل جانب، وقيل أن من سمع النداء فهو جار، وقد جاء ذلك عن الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه، وقيل أن الجار هو الملاصق الملازق، وقيل أن حد الجوار هم الذين يجمعهم مسجد واحد، وإن الأقرب والله أعلم أن حد الجوار يُرجع فيه إلى العُرف، فما عُلم عرفا أنه جار، فهو جار، وينقسم الجيران من حيث الحقوق الواجبة تجاههم إلى ثلاثة أقسام، فيوجد جار له حق واحد، وهو المشرك، وله حق الجوار، وجار له حقان، وهو الجار المسلم، له حق الجوار وحق الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق، وهو الجار المسلم له رحم، له حق الجوار، وحق الإسلام وحق القربى، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “الجيران ثلاثة، جار له حق واحد وهو أدنى الجيران، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق” أما من حيث القرب، فالجار إما يكون قريبا منك، أو بعيدًا، ملاصقًا أو غير ملاصق، ورتبة هؤلاء تتفاوت من حيث عدد الحقوق ومدى القرب.

والجار الأقرب يقدم على الجار الأبعد، وهو ما استشعره علماء الإسلام، فهذا الإمام البخاري نجده يبوب في كتابه الأدب المفرد، باب الأدنى فالأدنى من الجيران، وذلك تنبيها على قدره، ويترتب عليه حُسن المعاملة، والوقوف بجانبه، واجتناب أذيته، وهذا من شأنه أن يكفل التعايش بين الناس في طمأنينة ورحمة، وإن حقوق الجار كثيرة عديدة وهي في الجملة دائرة على ثلاثة حقوق كبرى، وهى الإحسان إليهم، وكف الأذى عنهم، واحتمال الأذى منهم، فأما الحق الأول، فإنه الإحسان إلى الجيران، فقد أمر الله سبحانه وتعالى بذلك في كتابه، فقال سبحانه كما جاء فى سورة النساء ” واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا” وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال صلى الله عليه وسلم” ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحسن إلى جاره” رواه مسلم، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإكرام الجار، وجعل ذلك من لوازم الإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جاره” وإن من الإحسان إلى الجيران سلامة القلب عليهم، وحب الخير لهم، ففي البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم” والذى نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه” وفي هذا تأكيد حق الجار، وأن الذي لا يحب لجاره ما يحب لنفسه من الخير، فإنه ناقص الإيمان.

وفي هذا غاية التحذير ومنتهى التنفير عن إضمار السوء للجار قريبا كان أو بعيدا، وإن من الإحسان إلى الجار الحرص على بذل الخير له قليلا كان أو كثيرا كما قال الله تعالى فى سورة الطلاق ” لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا” وإن الحق الثانى للجار، هو احتمال أذى الجار، فللرجل فضل في أن يكف عن جاره الأذى، وله فضل في أن يذود عنه، ويجيره عن أيد أو ألسنة تمتد إليه بسوء، وله فضل في أن يواصله بالإحسان جهده، وإن هناك فضل رابع، وهو أن يغضي عن هفواته، ويتلقى بالصفح كثيرا من زلاته وإساءاته، ولا سيما إساءة صدرت عن غير قصد، أو إساءة ندم عليها وجاء معتذرا منها، فاحتمال أذى الجار وترك مقابلته بالمثل من أرفع الأخلاق وأعلى الشيم، ولقد فقه السلف هذا المعنى وعملوا به، وروى المروذي عن الحسن، ليس حسن الجوار كف الأذى، حسن الجوار الصبر على الأذى، فيقول الغزالي رحمه الله “واعلم أنه ليس حق الجوار كف الأذى فقط، بل احتمال الأذى، فإن الجار أيضا قد كف أذاه، فليس في ذلك قضاء حقه، ولا يكفي احتمال الأذى، بل لا بد من الرفق، وإسداء الخير والمعروف، وإن الحق الثالث، هو كف الأذى فقد تقدم أن للجار مكانة عالية، وحرمة مصونة، ومن أجل ذلك جاء الزجر الأكيد والتحذير الشديد في حق من يؤذي جاره، فالأذى بغير حق محرم، وأذية الجار أشد تحريما، ولقد جاء في صحيح البخاري عن أبي شريح، عن النبى الكريم صلى الله عليه وسلم قال” والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل من يا رسول الله؟ قال” من لا يأمن جاره بوائقه”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock