دين ودنيا

نظرة تأمل مع الصدق والصادقين ” الجزء الثامن “

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الثامن مع الصدق والصادقين، وقد توقفنا عندما يصل الخبر إلى الكاهن ويكون هذا فعلا خبر ثقة صحيح، ومؤكد لأنه مصدره من السماء عن طريق هؤلاء الجن المسترقين، لكن هذا الكاهن يعمل هذا الخبر الواحد الصحيح وسيلة لكي يدخل الناس في الشرك ويوقعهم في الكفر، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء، أي أن الكاهن يقول سوف يحدث كذا يوم كذا، ويحدث كذا يوم كذا، وواحد من هذه الكذبات الكثيرة صدق، ومشكلة الناس أنهم لا يتذكرون إلا الصدق، وأما كذبات الكاهن الأخرى فلا يتذكرونها، يقولون فعلا فلان قال لنا يوم كذا سيحدث كذا وحدث فعلا، هذا رجل مجرب فعلا يعلم ما في الغيب فاذهبوا إليه، والله سبحانه وتعالى قادر على أن يحرق الجن مسترقي السمع قبل أن يصلوا إلى السماء أصلا، لكن الله عز وجل شاء أن يجعل هذا الحدث فتنة ليرى من يثبت على الدين والتوحيد ومن لا يثبت، وإن من التصديق المحرّم، هو ما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجه عن كعب بن عجرة قال ” قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه ولا يرد عليّ الحوض، إذن، تصديقه هذا حرام ومن لم يغش أبوابهم ولم يصدّقهم في كذبهم.

ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض ” رواه أحمد والترمذي، والصدق نافع جدا في أشياء كثيرة فهو ينفع الداعية إلى الله تعالى، لأن الناس يتأثرون بالصادق ويرثر صدق الداعية في وجهه وصوته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يتحدث إلى أناس لا يعرفونه فيقولون والله ما هو بوجه كذاب ولا صوت كذاب، ولا شك أن ظهور أثر الصدق في وجه الداعية وصوته يؤثر على المخاطب ويحمله على قبول القول واحترام ما يصدر من الداعية، إلا إذا كان أعمى القلب، ومهما يكن من أمر فإن الصدق ضروري لكل مسلم، وكذلك من الأمور المهمة في التربية، هى تربية الأولاد على الصدق، فلابد أن يتربى المسلمون جميعا على الصدق، لكن من الأشياء المهمة تربية الأولاد على الصدق، فالإسلام يوصي أن تغرس فضيلة الصدق في نفوس الأطفال حتى يشبوا عليها وقد ألفوها في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، وقد ورد عن عبد الله بن عامر قال “جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى بيتنا وأنا صبي صغير، فذهبت لألعب فقالت أمي يا عبد الله، تعال أعطيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أردت أن تعطيه؟ قالت أردت أن أعطيه ثمرا، قال أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة ” رواه أحمد، فهذه الحركة التي تفعلها بعض الأمهات تقبض يدها وتقول للولد تعال أعطيك، لو كانت يدها فارغة فهي كاذبة، وتكتب عليها كذبة.

فانظر كيف يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الآباء والأمهات أن ينشئوا أولادهم نشأة يقدسون فيها الصدق، ويتنزهون عن الكذب، ولو تجاوز الآباء والأمهات عن هذه الأمور وقالوا هذه توافه وهينة، فإن الأطفال سيكبرون وهم يعتبرون الكذب هينا وهو عند الله عظيم، أما الكذب فلا شك أنه جماع كل شر، والكذب هو أصل كل ذم وما ذاك إلا لسوء عواقبه وخبث نتائجه، وما شيء إذا فكرت فيه بأذهب للمروءة والجمال من الكذب الذي لا خير فيـه وأبعد بالبهاء عن الرجال، والنبي صلى الله عليه وسلم، كان يحارب الكذب محاربة شديدة، فعن السيدة عائشة رضى الله عنها قالت “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضا عنه حتى يحدث توبة” وهكذا فإن عقوبة الكذاب شديدة بعد الموت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الرؤيا الصادقة التي رآها، وأخبر عنها لما سأل الملكين فقالا أما الرجل الذي أتيت عليه يُشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم ينتقل إلى الجانب الآخر ويعملون به مثل ذلك، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق “رواه البخاري، فهذه عقوبته، وقال في رواية أخرى صلى الله عليه وسلم” رأيت الليلة رجلين أتياني قالا الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يكذب بالكذبة تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة” رواه البخاري، والشق عذاب الكذاب في البرزخ.

لكن يوم الدين العذاب أشد وأنكى، وقال الحسن البصري عن هذه النوعية “خرج عندنا رجل في البصرة فقال لأكذبن كذبة يتحدث بها الوليد، قال الرجل فما رجعت إلى منزلي حتى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها” وهو الذي كذبها يقول ما رجعت إلى منزلي حتى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها، فهؤلاء الذين يروّجون الإشاعات، ويختلقون الأخبار، ويستغلون الوسائل المختلفة لنشرها، فتعم المجتمع لأنها تسمع بجميع الوسائل المسموعة، لا شك أن عذابهم يوم البرزخ أليم، وعذابهم يوم القيامة أشد ألما وأنكى وأخزى، ولا يقول الناس هؤلاء أعداء الله ينشرون الأكاذيب ويخونون الأمين ويزعمون أن فلانا صادق وهو خائن، ويروجون الإشاعات، ويغيرون الواقع، ويتهمون الأبرياء، والناس يروج عليهم هذا الكذب، لأنهم ليس عندهم هذه الوسائل التي أمامهم، نقول رويدا سيأتي موعدهم عند الله، فإن الله عز وجل لا يضيع عنده حق وستكون عقوبة هؤلاء أليمة، ولما علم الصالحون خطورة الكذب وأنه ثلث النفاق، وأنه يهدي إلى الفجور، خافوه على أنفسهم، فعندما حضرت الوفاة عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال “إنه كان خطب إلي ابنتي رجل من قريش، وقد كان مني إليه شبه الوعد، وأخاف أن ألقى الله بثلث النفاق أشهدكم أني زوّجته” وكان الأئمة يستدلون بحركات الناس وأفعالهم وكلامهم على صدقهم.

ولما خرج البخاري يطلب الحديث من رجل فرآه يشير إلى دابته برداء كأن فيه شعيرا وليس فيه شيء رجع وقال “لا آخذ الحديث عمن يكذب على البهائم” وقال الأحنف بن قيس “ما كذبت من يوم أسلمت إلا مرة واحدة” وكان السلف يدققون فيه جدا، وبقد لقي الإمام أحمد رحمه الله، بعض أصحابه فقال كيف حال أولادك؟ فقال الرجل يقبّلون يديك، قال الإمام أحمد “لا تكذب” وإن الكذب له دواع كثيرة ومنها أن يجلب لنفسه مغنما أو يدفع عن نفسه ضررا، أو أن يقول الناس لا يقبلون حديثي ويقبلون عليّ إلا إذا كذبت، ولأني لا أجد من الأخبار الصحيحة ما أطرفهم به ويستظرفون به حديثي، فيستحل الكذب ويأتي بعجائب وغرائب من أجل أن يضحك الناس ويجمعهم حوله، وقد يكون الكذب من أجل التشفي بالخصم فيكذب عليه لأجل تشويه سمعته مثلا وهكذا، وهذا الكذب خلق ذميم من اعتاده صعب عليه جدا أن يتخلص منه، لأن العادة طبع ثان، إنسان فيه طبع يولد من بطن أمه فيه، والعادة التي يتعود عليها الإنسان طبع ثان ويصعب جدا تغيير الطباع، وقال بعض السلف “من استحلى رضاع الكذب عسر عليه الفطام” وقال بعضهم لولده “يا بُني، احذر الكذب فإنه شهي كلحم العصفور من أكل منه شيئا لم يصبر عنه” وقال الأصمعي “قيل لكذاب ما يحملك على الكذب؟ قال “أما إنك لو تغرغرت بمائه ما نسيت حلاوته” وقيل للكذاب هل صدقت قط؟ فقال أخاف أن أقول لا فأصدق”

وإن أصل الحياة الطيبة وقاعدة السعادة المنشودة وأساس العاقبة الحسنة في العاجل والآجل يكمن في الصدق مع الله عز وجل ظاهرا وباطنا، قولا وفعلا، طاعة وامتثالا، فعلى هذا المرتكز تتحقق الثمار الطيبة والنتائج المرضية دنيا وأخرى، ويقول الله تعالى فى سورة محمد ” فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ” وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابيا قسما من غنائم خيبر، فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال “ما على هذا اتبعتك يا رسول الله، ولكن اتبعتك على أن أرمى ها هنا وأشار إلى حلقه، فأموت فأدخل الجنة، فقال “إن تصدقِ الله يصدقك” ثم نهض إلى قتال العدو، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مقتول، فقال صلى الله عليه وسلم “أهو هو؟” فقالوا نعم، فقال “صدق الله فصدقه” فكفنه النبي صلى الله عليه وسلم، في جبته ثم دعا له “اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا فى سبيلك قُتل شهِيدا وأنا على ذلك شهِيد” إنه الصدق الذي يعيش به القلب والبدن والظاهر والباطن في رعاية تامة لأوامر الله عز وجل، والاستقامة على منهجه سبحانه وتعالى إنها تربية الباطن باليقظة الدائمة، والحذر التام من الجبار عز وجل، ومن سخطه وأليم عقابه، والسعي إلى رضوانه وجنته فهو سبحانه القائل فى سورة آل عمران ” ويحذركم الله نفسه ” ولهذا فالأمة المسلمة اليوم وهي تحيط بها الفتن من كل جانب، وتعلو حياتها المصائب من كل حدب في أمس الحاجة للصدق مع الله عز وجل.

فتحتاج إلى صدق الإيمان والطاعة، وصدق التوجه والإرادة، وصدق العمل والاتباع في كل شأن، وفي جميع مجالات الحياة، وإن هذا الأصل هو المقوم لعمل الأفراد والمجتمعات نحو الإصلاح والفلاح والعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة، وهو الذي يقودها إلى الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب، ولهذا فإن الحاكم في حاجة للصدق مع الله عز وجل في سياسة الرعية ومراعاة مصالحهم والقيام على تحقيق شئونهم، وكذلك الرعية في حاجة إلى الصدق مع الله عز وجل في طاعة الحاكم على المنهج الإسلامي الذي جاء به الشرع المطهر، لتحقيق مجتمع فاضل تتحقق فيه الحياة الطيبة والعيشة الرضية، وهكذا كل مسئول لا يستقيم منهجه ولا يصلح عمله ولا يفلح سعيه إلا إذا صدق مع الله عز وجل وصدق في المنهج الشرعي الذي تقوم عليه أصول مسئوليته، وكان ابتغاء رضوان الله ونيل ما عنده الباعث له في كل تصرفاته، فالقاضي لا يوفق إلى الصواب إلا بصدق تام مع الله عز وجل، والمفتي لا يهتدي إلى ما فيه براءة ذمته إلا إذا كان صادقا مع الله تعالى ظاهرا وباطنا، وهكذا التاجر في تجارته، والعامل في صنعته، والكاتب في كتابته، والإعلامي في إعلامه، وهكذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ” من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه “رواه مسلم، ومن الأمور التي يكون فيها التصديق له أجر عظيم، تصديق المؤذن.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock