الناس والمجتمع

وقفه مع الأم فى عيدها ” الجزء الحادى عشر “

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الحادى عشر مع الأم فى عيدها، وقد توقفنا عن رأى المانعون لهذه البدعة، فقد رأي المانعون أنه قد ذهب مجموعة من أهل العلم، إلى القول بتحريم الاحتفال بعيد الأم والاحتفاء به وتخصيصه، وبيان آرائهم فيما يأتى، أولا علماء اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية، وقد قالوا بإن الاحتفال بيوم عيد الأم محرّم شرعا، فهو من البدع التي لم ترد عن النبى صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته الكرام، وقد قال الشيخ ابن عثيمين إن هذا العيد بدعة ومخالف للشريعة، فلم يكن معلوم فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، والأعياد الشرعية المعروفة هي فقط عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع يوم الجمعة، أما ما سوى هذه الأعياد الثلاثة فهي باطلة ومخالفة للشرع، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الشيخ ابن عثيمين أنه لا يجوز الاحتفال بهذا اليوم أو إحداث أى شعائر من العيد فيه كتقديم الهدية وإظهار السرور والفرح فيه، لأن هذه الأعياد بدع لم تكن معلومة في زمن السلف الصالح، وقال الشيخ ابن باز، إن تخصيص يوم في السنة للأم وإهمالها بقية العام من الأمور المخالفة للشريعة الإسلامية، والآيات القرآنية والأحاديث الشريفة كثيرة في بيان وجوب بر الوالدين والإحسان إليهم وصلة الرحم، وبيان التحذير من عقوقهما وقطع صلتهما، فتخصيص يوم من أيام السنة للاحتفال في الأم من الأمور المحدثة في الدين ولم يفعلها النبى صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام، لذا وجب ترك الاحتفال به ونصح الناس بذلك والاكتفاء بما شرع الله ورسوله.

وأما عن تاريخ الاحتفال بعيد الأم إن تاريخ الاحتفال بعيد الأم يختلف من دولة إلى أخرى، وهكذا فإن الأم هي منبت الإنسان وأصله، وفي قرارات أرحام الأمهات تشكل الأبناء خلقا من بعد خلق، وطورا بعد طور، ينبتون تحت أضلاعها، ويكبرون في حواشيها، ويتغذون من دمها وجسدها، الذي يصيبه الوهن يوما بعد يوم ليكبر ذلك الجنين في بطنها، وهي تناظر اليوم بعد اليوم، بل الساعة تلو الساعة، لترى حملها بين يديها، فتنسى في هذه اللحظة مرارة الحمل، وأوجاع الولادة فكيف لا تكون الأم أغلى كنز وأعظم منحة إلهية، وهي بعد ذلك لا تكل ولا تمل تعهدا وتربيةً وتطبيبا ورعاية وتغذية، وغاية مناها وراحة ضميرها أن ترى أبناءها قد حققوا آمالهم، وبنوا أنفسهم، واستقلوا بذاتهم، والإسلام دين نالت الأم فيه مكانة لا نظير لها، ولا قريب منها، سطرتها كثير من الآيات الكريمات والأحاديث الشريفة، ولكن الناس فى العالم المعاصر، مسلمين وغير مسلمين، اصطلحوا على تسمية يوم خاص للاحتفال بالأم، وأسموه عيد الأم، ولقد كثر في الغرب تخصيص أيام بعينها فى السنة للاحتفال بشيء يرغبون في تذكير المجتمع به، لأنهم يشعرون بأهميته، أو لأنهم يشعرون بإهمال فى حق جانب أو شخص أو فئة اجتماعية، فيبحثون عن مناسبة لتذكير المجتمع بها، وهذا هو المنطلق والأساس لفكرة الأعياد والأيام التي كثر تخصيصها في الغرب، مثل يوم المرأة، ويوم الطفل، ويوم الأم، ويوم العمال، ومثل ذلك، وهم في هذا لا ينطلقون فيما يبتدعونه من دين أو شرع، وإنما يخترعون هذه الأعياد بمحض أهوائهم ونظرتهم وحاجاتهم الاجتماعية.

فعيد العمال نابع من رغبتهم في مراعاة حقوق العمال وإنصافهم، وعيد المرأة لأنهم يرون المرأة مسلوبة الحقوق مظلومة في مجتمعاتهم، ويوم الطفل لأن الطفل يتعرض في الغرب لأمراض اجتماعية كثيرة، وعيد الأم نبع من علل وأمراض في مجتمعات ليس لديها شرع صحيح تقوم عليه، ففي المجتمعات الغربية قصور كبير في علاقاتهم الاجتماعية، ولا سيما علاقة الأبناء بالأمهات، ولعلاج هذا القصور ابتدعوا عيدا يعالجون به تقصيرهم وإهمالهم وعقوقهم في يوم واحد في السنة، وهكذا ظهرت هذه البدعة لتلبي تلك الرغبة المحدودة، وقد أخبر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عن وقوع متابعة أمته للأمم السابقة من اليهود والنصارى والفرس، وليس هذا من المدح لفعلهم هذا، بل هو من الذم والوعيد، فعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “لتتبعن سَنن من قبلكم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه” قلنا يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال “فمن؟ رواه البخارى ومسلم، وعن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال “لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع” فقيل يا رسول الله، كفارس والروم؟! فقال “ومن الناس إلا أولئك؟ رواه البخارى، وأخذ القرون هو المشى على سيرتهم، وقد تحقق ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتابع جهلة هذه الأمة ومبتدعتها الأمم السابقة من اليهود والنصارى والفرس في عقائدهم ومناهجهم وأخلاقهم وهيئاتهم، ومما يهمنا الآن أن ننبه عليه هو اتباعهم ومشابهتهم في ابتداع عيد الأم.

وهو اليوم الذي ابتدعه النصارى تكريما في زعمهم للأم، فصار يوما يصل فيه الناس أمهاتهم ويبعثون لهن الهدايا والرسائل، فإذا انتهى اليوم عادت الأمور لما كانت عليه من القطيعة والعقوق، وأنه تنبع مشكلة كثير من الأعياد المبتدعة المخترعة لدى بعض الناس من أنها تحمل معنى جميلا، لكنها في الوقت نفسه أعياد تخالف الشرع وتتعارض مع هدى الكتاب والسنة، فالناس متفقون على وجوب البر بالأم ووجوب تكريمها ورعاية حقوقها لأنه أمر فطري وإن قصّر فيه بعضهم، وهذا هو المعنى الجميل الذى من أجله يتبع كثير من الناس الغرب في الاحتفال بما يسمى عيد الأم، لكن تخصيص يوم محدد في العام للاحتفال بالأم يتعارض مع تحديد الشرع لأعياد المسلمين بعيدين لا ثالث لهما، فإن المعاني الجميلة والأشياء التي تحتاج إلى تقدير كثيرة، ولا يختلف أحد فى أنها تستدعي الذكر والإشادة والاحتفال، ولكن هل يعني ذلك أن نقوم بعمل احتفال خاص لها دون اهتمام بمراعاة حدود الإسلام وضوابطه في الاحتفال والأعياد؟ فإن الجواب هو لا، لأن فى ديننا ضوابط وأحكاما يجب أن نسير عليها، والشر كل الشر في مخالفتها، فقال الله تعالى فى كتابه العزيز ” ثم جعلناك على شريغة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون” فمهما كان في هذا الاحتفال من معان جميلة فإنها لا تخرجه عن كونه بدعة لأنه أولا ليس من أمر الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد” رواه مسلم، وأنه ليس هناك دليل على تخصيص الأم باحتفال، لأنها قامت بتربية أولادها وتعبت في تنشئتهم.

ولو كان هذا حقا لما تركه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولبيّنه للناس، كيف وهو الذي عرّفنا قدر الأم ومنزلتها وحقوقها؟ وأنه ليس هناك دليل على تخصيص يوم محدد بعينه لهذا الاحتفال، فالإسلام وصى بتكريم الأم، ورفع من قدرها ومكانتها، ونبّه على حقوقها، ومع ذلك لم يأمر بتخصيص يوم معين لتكريمها والاحتفال بها، وأنه ليس هناك دليل على تخصيص يوم الواحد والعشرين من شهر مارس أو غيره من الأيام من كل عام للاحتفال بهذا اليوم، إنما هي أهواء لا أساس لها في الشرع، وأن الاحتفال بهذا اليوم موافق لاحتفال المجوس وغيرهم بعيد وثني هو النيروز، وهو بدء فصل الربيع، وأن تعظيم هذا اليوم تحوّل إلى عقيدة تربّت عليها أجيال، حتى رأوها من واجبات البر بالأم، وهذا من النتائج التي يُنهى عن البدع من أجلها، وأن في الاحتفال به موافقة لليهود والنصارى في أعيادهم، وهذا ما يخالف مقصود الشرع، حيث شرعت لنا في الإسلام كثير من العبادات على وجه وكيفية قصد بها من ضمن ما قصد مخالفة الكفار، والبُعد عن التشبه بهم وموافقتهم سواء في الوقت، أم في المكان، أم في المناسبة، أم في الكيفية، أم في الجهة، وأنه عيد ليس له أصل فى شرعنا ولا في شرعهم، ولا نزل به أمر في كتاب من كتب الأنبياء الكرام عليهم السلام، بل لم يؤثر عن أحد في كتاب لا في الصحيح ولا في الضعيف من الأحاديث والروايات، وقد قال شيخ الإسلام، فليس النهي عن خصوص أعيادهم، بل كل ما يعظمونه من الأوقات والأمكنة التى لا أصل لها في دين الإسلام، وما يحدثونه فيها من الأعمال يدخل في ذلك.

فإن الإسلام ينشئ المجتمعات ابتداء على مراعاة الحقوق، ما يمنع ظهور الأمراض الاجتماعية، وانظروا إلى الأم كيف كرّمها الإسلام أحسن تكريم فجعل البر بها والتذكير بحقوقها حقا مشروعا طوال السنة كلها، بل إن حقها أعظم وأجل من أن يدرك في العمر كله وليس في يوم في السنة، وإن من عدل الإسلام أنه لم يهدر حق الأب أو يهمله، لكنه سبحانه وزع الحقوق بالعدل بينهما، أما نسبة حق الأم إلى حق الأب، فإن للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها ثم تشارك الأب في التربية، وقيل قد مضى ذلك الرجل يقطع الفيافي والقفار قد اغبر وجهه، وشعث شعره, وتتابعت أنفاسه, وبلغ به الجهد مبلغه إذا سار مفازة وقف وألقى الحمل عن ظهره وجعل يلتقط أنفاسه مليا حتى إذا ما استرد إليه نفـسه وهدأت نفسه حمل حمله على ظهره، وسار ميمما بيت الله الحرام، فلم يكن حمله ذاك زادا ولا طعاما ولا مالا ولا متاعا وإنما كان هذا المحمول هي أمه التي ربته فأحسنت تربيته حتى غدا رجلا بلغ من بره ما رأت، فسار الرجل البار تمتطيه أمه نحو البيت الحرام، فطاف بالبيت سبعا، وبينما هو يطوف إذ رأى الصحابي عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، فدنا إليه، وقال يا أبا عبد الرحمن أترانى جازيتها بما فعلت؟ نظر إليه ابن عمر فرأى وجها شعثا وجهدا مظنيا، لكن أنى لابن أن يجزي أما، عندها قال ابن عمر رضى الله عنهما للرجل، لا ولا زفرة واحدة، فإنها الأم وما أدراك ما الأم عطر يفوح شذاه وعبير يسمو في علاه والعيش في كنفها حياة.

وعين لا تكتحل برؤيتها عقوقا وإعراضا حسرة والبعد عنها أسى وحرمان، فالأم، هي قسيمة الحياة، وموطن الشكوى، وعتاد البيت، ومصدر الأنس، وأساس الهناء يطيب الحديث بذكراها ويسعد القلب بلقياها حنانها فياض لا ينضب ونبعها زلال لا يجف، إنها الأم التي وصى بها المولى عز وجل وجعل حقها فوق كل حق إلا حقه وجعل شكره سبحانه مقرونا بشكرها، فهى أمك ثم أمك ثم أمك قالها المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثلاثا لمن سأله من أحق الناس بحسن صحابتى، فإنها الأم يا من تريد مغفرة الذنوب, وستر العيوب, يأتي إلى النبى صلى الله عليه وسلم رجل، فيقول أذنبت ذنبا كبيرا فهل لي من توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “هل لك من أم؟” قال لا، قال “فهل له من خالة؟” قال نعم، قال “فبرها” رواه الإمام احمد، فيا من تريد رضى رب البريات، وتطلب جنة عرضها الأرض والسموات، دونك مفاتحيها بإحسانك لأمك ورضاها عنك، وهذا رجل من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم, يأتي إليه يحدوه شوقه إلى جنات ونهر وتتعالى همته لاسترضاء مليك مقتدر، فيمشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول “يا رسول الله ائذن لي بالجهاد؟ فقال له النبى صلى الله عليه وسلم “هل لك من أم؟” قال نعم، فقال “الزم قدمها فثم الجنة” فإن الإحسان إلى الأم سبب لقبول الأعمال, والإحسان إلى الأم سبب للبركة في الرزق وفي العمر في وقت قلت فيه البركات، فقال صلى الله عليه وسلم “من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه” وأعظم الصلة صلة الوالدين، وأتم الإحسان الإحسان إلى الأم.

فإنها تفتح أبواب السماوات، وتجاب الدعوات، لمن كان بارا بوالدته، محسنا إليها فانطبقت الصخرة على ثلاثة نفر، فدعا كل منهم، وتوسل إلى الله بأرجى عمل عمله، ومنهم رجل كان بارا بوالديه، ففرج الله عنهم الصخرة ونجوا من الهلاك، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أويس القرني أنه كان مجاب الدعاء، وكان من أبر الناس بوالدته، فإن أمك لها عليك القدر العالي أحسنت إليك منذ كنت نطفة في حملك ذاقت الألم والمر وعانت الشدة والضر فكم من أنه خالجتها، وزفرة دافعتها من ثقلك بين جنبيها ولا يزداد جسمك نموا إلا وتزداد معه ضعفا، لأجل كل هذا، فالبر بالأم مفخرة الرجال، وشيمة الشرفاء، وقبل ذلك كله هو خلق من خلق الأنبياء فإن البر بالأم يتأكد يوم يتأكد إذا تقضى شبابها وعلا مشيبها ورق عظمها، وأحدودب ظهرها، وارتعشت أطرافها وزارتها أسقامها، فى هذه الحال من العمر لا تنتظر صاحبة المعروف، والجميل من ولدها، إلا قلبا رحيما، ولسانا رقيقا ويدا حانية، فطوبى لمن أحسن إلى أمه في كبرها طوبى لمن سعى في رضاها، فلم تخرج من الدنيا إلا وهي عنه راضية، فيا أيها البار بأمه وكلنا نطمع أن نكون كذلك تخلق بالذل بين يديها بقولك وفعلك، لا تدعها باسمها، بل نادها بلفظ الأم، فهو أحب إلى قلبها، لا تجلس قبلها، ولا تمشِ أمامها، قابلها بوجه طليق وابتسامة وبشاشة، تشرف بخدمتها، وتحسس حاجاتِها، إن طلبت فبادر أمرها وإن سقمت فقم عند رأسها، أبهج خاطرها بكثرة الدعاء لها، راع مشاعرها ولا تفتأ أن تدخل السرور والأنس على قلبها, قدم لها الهدية، وزف إليها بالبشائر واستشعر وأنت تُقبل وتعطف على أبنائك عطف أمك وحنانها بك وردد فى صباحك ومسائك ” رب إرحمهما كما ربيانى صغيرا ” .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock