أدب وشعر

جَمعنا الحَرفُ صُدفةً

بقلمي / رجاالأشقر

جَمعنا الحَرفُ صُدفةً ، وتحتَ سَقفِهِ التَقينا وكانَ مِيعادٌ ؛ والحَرفُ سَيِّدُ الزَّادِ على مَوائِدِنا الأدَبِيَّةِ
والثَّقافِيّةِ إِن خَلَت مِنهُ أَصابَنا جوعٌ ، والجوعُ
كَافِرٌ لا يَعرِفُ الرَّحمَة .
تَبادَلنا الرَّسائِلَ في مواضيعَ شَتّى ، وفي البالِ
هَمَّينِ هَمُّ الوَطَنِ ، وهَمُّ المُواطِن .. حمَلنا الأوَّلَ
في قُلوبِنا قَولاً وعَمَلاً،وقَدَّمناهُ على كُلِّ ما عَداهُ
باعتِبارِهِ الرَّمزَ ؛ والرَّمزُ عندَ الأمَمِ والشُّعوبِ لَهُ
قُدسِيَّةٌ،وهُوَ الأرفَعُ مقاماً والأَكثَرُ دَيموَمَةً، وحَملنا
الثّاني رِسالَةً ظَاهِرُها كَلِمَةٌ هِيَ في مَقامِ السِّلاحِ،
وجَوهَرُها قَضِيَّةٌ عُنوانها الإصلاح .
وإذا كُنّا سَويَّةً شَريكَينِ مُتكافِلَينِ في هذَينِا
الهَمَّينِ ، فَإِنَّ عايدَةَ كانَت تَستَأثِرُ وحدَها بالقِسطِ
الأوفَرِ مِنهُما ؛ فتَقومُ بالواجِبِ نحوَهُما بِالأَصالَةِ
عَن نَفسِها، وتَتولّى بالوِكالَةِ ما علينا إنجازهُ، وتَفي
في كُلِّ زمانٍ ومَكان ..
لَكَأنَّها وَجَدَت في الذَّاتِ فائِضَ قُوَّةٍ تَستَثمِرُهُ في
هَذا المَجالِ لِتُزيحَ عَنّا ما قَد يُثقِلُ كاهِلَنا وَيَصرِفُنا
عن شُغلٍ نَدَّخِرُهُ لِعِيالِنا ؛ فَكانَ أَن أراحَتنا وتَعِبَت،
ورُبَّما سَها عن بالِها – في فورَةِ مُرُؤَةٍ – أنَّ تَعَباً
يُصرَفُ بِالمَجَّانِ حِينَ يَغيبُ الوِجدَانُ ، وتَرخَصُ
الأَثمانُ هُوَ مُحَرَّمٌ قَطعاً على فِكرٍ شَفيفٍ، وحِسٍّ
رَهيفٍ ، وقَلبٍ ضَعيفٍ ، ولا يَليقُ حَتماً إِلاَّ بِمَن
يَختَزِنُ في دَاخِلِهِ جَوهَرَ الإنسانِ، ومحَبَّةَ الأوطان.
تِلكَ السَّيِّدَةُ أقدَمَت حينَ أحجَمَ أصحابُ الشَّأنِ ،
وأعطَت حيثُ كانَ هَؤُلاءُ يَأخُذونَ ، ومَرِضَت في
الوقتِ الّذي كانوا في أتَمِّ العافِيَةِ ، ولا يَشكون ..
إنتَصَرت على نفسِها يومَ كانَ الإِنكِسارُ سَيِّدَ
المَواقِفِ، وعُنوانَ المَرحلَةِ، والخَيبَةُ تَسكُنُ الوُجوهَ
الحَالِكَةَ والبُيوتَ الخَاوِيَةَ كَما ظِلُّ الشَّجَرِ في
المِياهِ السَّاكِنَة ..
لَم تَرضَ بالقَهرِ سبيلاً إلى أمانٍ تَشتَهِيهِ وتَرى فيهِ
مَهانَةً، وما كَانت لِتقبَلَ مَرَّةً بِحِيادٍ لا يُوائِمُ طبعَها
وَفيهِ خِيانَة .. هِيَ دَائماً على خَطِّ النَّارِ تِتَنَقَّلُ
بِجُرأَةٍ بينَ الجَبَهاتِ كالثُّوَّارِ؛ لَكِنَّها لا تَملِكُ ذَخيرَتَهُم،
وَخِطَطُها لا تُشبِهُ خِطَطَهُم ، وأَهدافُها تَختَلِفُ عَن
أهدَافِهِم .. مَرَّةً تُقارِعُ بِالكَلِمَةِ انتِصاراً لِحَقٍ يَكادُ
أن يَضيعَ، ودِفاعاً عَن ظُلمٍ لَحِقَ بِمظلومٍ، ومَرَّةً تُبَلسِمُ جُرحَ مَكلومٍ ، وفي أخرى تَمُدُّ يَدَ المُساعَدَةِ جَبراً بِخاطِرِ محرومٍ ؛ ومَن قالَ أنَّ الثَّائِرَ وحدَهُ يبقى عُرضَةً لِلأخطارِ ، وأنها في هذا تَختَلِفُ عَنه؟.
قَد يُصابُ هُوَ في أَيِّ لحظَةٍ بِطَلقٍ نَارِيٍّ فَيُقتَلُ أو
يُجرَحُ ، وقَد تُكتَبُ لهُ النَّجاةُ دائماً؛ وفي الحالَتينِ
ينتهي بِهِ الأمرُ إلى الرَّاحةِ بعدَ الجِهادِ فَيُكافَأُ
خَيرَ مُكافَأةٍ ، ويُكتَبُ إسمُهُ بِماءِ الذَّهَب .. لَكِنَ
الأمرَ عندَها مُختَلِفٌ تماماً ، فالإصابَةُ حَتمِيَّةٌ ،
وفُرصُ النَّجاةِ تكادُ تَكونُ مَعدومَةً لِأنَّ الأعدَاءَ
حاضِرونَ على كُلِّ الجَبهاتِ إن أخطَأها واحِدٌ
أصابِها ثَانٍ بِمقتَلٍ أو جُرحٍ ؛ وقَتلُ الرّوحِ أشَّدُّ
إيلاماً ، وأكثَرُ انتِقاماً مِن قَتلِ الجَسَدِ ، وجُرحُ
الكَرامَةِ أبلَغُ مِنْ جُرحِ الجَسدِ وأعمَقُ مِنه، فقَد
يَطيبُ الثَّاني بَعدَ حِينٍ ، لَكِنَّ النَّزفَ في الأَوَّلِ
لا يَتوَقَّفُ على مَدى السِّنين ..
عايدة عيد تُقتَلُ كُلَّ يومٍ ، والقَاتِلُ على قَيدِ
نَفسٍ مِنها حُرٌّ طليقٌ ، لَكِنَّها تَنتَصِرُ على الموتِ
في كُلِّ مَرَّةٍ ، وتَكتُبُ بِحِبرِها وثِيقَةَ الحَياةِ ،
وتُجرَحُ في كُلِّ ” معرَكةٍ ” فَتُداوي جُرحَها بِدواءٍ
تَصنَعهُ بِنفسِها؛ لَكِنَّها في المَشهَدَينِ تَبقى عاجِزَةً
عَن مَحوِ الأثَرِ فَتنسى ولا تُسامِحُ ، وإن تَعَثَّرَت
تَنهَضُ مِن جَديدٍ وتُكَافِح ..
رُغمَ صلابَتِها تراها أحياناً غَضَّةَ العودِ ، كسيرَةَ
القَلبِ ، مَهيضَةَ الجَناحِ ؛ تشكو الظُّلمَ ولا تَظلِمُ ،
وإذا خَطَرَ لها في ساعَةِ شِدَّةٍ أن تَنتَقِمَ كانَت
تَربِيَةٌ بِالمِرصَادِ حاضِرَةً ، وإيمانٌ بِرَبِّ العِبادِ
على أُهبَةِ الإستِعدَادِ فَتَرحَمُ تارِكَةً لِسَخَاءِ الدَّمعِ
مُهِمَّةَ الثَّأرِ ، ولِدِفءِ اللِّسانِ أمرَ العَتبِ دونَ تَجريحٍ أو تَعريض ..
لَن أدخُلَ – على ضيقِ المجالِ – بِتَعدادِ المَزايا
والصِّفاتِ ، فقَد سَبقَ لي أن بَيَّنتَها في أكثرِ مِن
مَقالٍ ؛ وأنا في هذا المَقامِ مُغرِضٌ بَعدَ أن قرَاتَ
مَلِيّاً ما كَتَبَتهُ على صَفحَتِها ، واستَفَزَّني سَبَبٌ
لا أظُنُّني غافِلاً عنهُ بِحالٍ ، ولَن أسمَحَ لِقَلمي أن
يسلُكَ دُروبَ المُجامَلَةِ الّرَّخيصَةِ الّتي يرى فيها
البَعضُ مِنبَراً لِبَيعِ المَواقِفِ وإسداءِ النَّصَائِحِ ،
بِخِلافِ قِلَّةٍ مُخلِصَةٍ آلَمَها القَرارُ ، فوجَدت فيها
فُرصَةً لِمواساةٍ صادِقَةٍ ، ولِأداءِ واجِبٍ أخلاقِيِّ
لا يَحتَمِلُ التَّأجيلَ والتَّسويفَ والمُماطَلة .
جِئتُ هُنا لِأَقولَ أنَّ مَن جَمَعَ ما تَفَرَّقَ ، وَرَأبَ
ما تَشَقَّقَ ، وجادَ في العَطاءِ وأغدَقَ ، وزَيَّنَ
مَجالِسَنا بِفخامَةِ الحُضورِ ، وصفحاتِنا بِبديعِ
البَيانِ ورَوعَةِ السُّطورِ فَسَما وتَألَّقَ ؛ ليسَ مِن
حَقِّهِ أن يستقيلَ وَيعتَكِفَ لِأَنَّ مُلكَ الذَّاتِ في
الخاصِّ حَقٌّ حَصرِيٌّ ، وفي مَبدَأِ الشَّراكَةِ يتَّخِذُ
صِفَةَ العُمومِيَّةِ الّتي لا يَجوزُ لِأحَدٍ مُنفَرِداً فَسخَهُ إلا بِرِضا الفَريقَينِ أيَّا تَكُنِ الدِّواعي
والظُّروف ..
عايدة عيد أنتِ الآن مُلكِيَّةٌ عامَّةٌ لا تقبَلُ التَّنازُلَ،
وصُكوكُها باتَت مُسَجَّلَةً في ذَاكِرَتِنا الأَدَبِيَّةِ
والثَّقافِيَّةِ ، وفي سِجِلاَّتِنا المُجتَمَعِيَّةِ والوَطَنِيَّةِ
والإنسانِيَّةِ ، ولا قُدرَةَ لِأيٍّ كانَ على شَطبِها ..
إنَّ أقصى ما يُمكِنُكِ فِعلُهُ هُوَ طَلَبُ هُدنَةٍ ، أو
التِماسُ راحَةٍ تَستَعيدينَ فيها هِمَّةً نالَ مِنها
تَعبٌ في مَجالٍ ، وصَفاءَ ذِهنٍ شَوشَّتهُ حَرتقاتُ
المُغرِضينَ وأفعالُهُم الّتي ما كانَت في يَومٍ
لِتَرتَقِيَ إلى مُستوى ما يَحمِلونَ وما يُمَثِّلونَ ،
ولا تَمُتُّ بِصِلَةٍ إلى قِيمٍ كانَت إلى الأمسِ القريبِ
تُلازِمُ سُلوكِيّاتِنا ، وتُزَيِّنُ حَياتَنا ، وفيها أَودَعنا
كُلَّ أَدبِيّاتِنا ..
عايدة عيد ستبقينَ رُغمَ أنفِ الحاقِدينَ وَردَةً
بيضاءَ على صَدرِ ثَقافَتِنا ، ومَسحَةَ نورٍ تُضيءُ
عَتمَ ليالِينا، وتُبَشِّرُ بِفجرٍ لا يُعكِّرُ صباحاتِهِ سِوى
هَفيفُ نَسَمَةٍ وتَغريدُ هَزار ..
لكِ موَدّتي أديبَتُنا الرَّاقِية .

15/12/2022

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock