ثقافة

عنصرية

عنصرية

عنصرية

قصة قصيرة بقلم شعبان منير

مرهقٌ هو .. يهدُّه التعب.. 

يعمل منذ البارحة في تنظيف المراحيض، ابنته الصغرى تعاني من برد خفيف.. أعطاها خافضًا للحرارة.. وأوصى جارته مارلين بأن تعتني بها..

امرأته ماتت منذ عامين بسرطان البنكرياس.

inbound4908357788949541968

.

ولده الأكبر يعاني من التَّوَحُّد.. يدفع له بعض المال في دار الرعاية التي أودعه فيها.. تساعده الكنيسة القريبة من بيته في تحمُّل بعض النفقات..

يقضي وقت فراغه في كتابة المقالات لصحيفة محلية، ويقبض عشرة دولارات مقابلًا للمقال الواحد..

لا يعرف لماذا اجتمعت عليه كل هذه الظروف.. لكنه سيتحمل من أجل ابنته وابنه.. فليس لهما غيره في هذه الدنيا.. إخوته يعانون مثله في هذا المجتمع الرأسمالي القذر!

أثناء تنظيف المرحاض الأخير.. تنزلق قدماه، وينسحب جسمه على البلاط الناعم.. يسب الظروف التي جعلته في هذا المكان.. تتبلل ملابسه.. ويحس برعشة من أثر الماء البارد والصابون.. يقوم متثاقلًا، ويخلع ما تبلل من تلك الملابس.. يجد غيرها معلقة على الحائط..

تدمع عيناه للحظات.. يتذكر زوجته التي كان يحبها.. فيزيد ألمه.. وتتوجع روحه..

يذكر سعيهما معًا على تلبية حاجات الولد الأكبر من العلاج، والرعاية.. وتلك الابنة الجميلة ذات الشعر المفلفل.. والبشرة الزنجية السوداء.. يتذكر قفزها، ولعبها حولهما..

يتذكر وظيفته المرموقة التي كان يشغلها.

ثم تئِنُّ جروح نفسه، وتتوالى اللحظات المؤلمة.. ذلك عندما أبلغه مدير الفرع بأن المؤسسة تسعى لتوفير بعض النفقات.. وإلغاء بعض الوظائف..

وقد قررت الإدارة الاستغناء عن خدماته، ثم قدَّم له المدير شيكًا مصرفِيًّا بباقي مستحقاته..

ساعتها أحسَّ بأن العالم يتقزَّم، وأنه يقع في حفرة عميقة.. كأن هذا المدير يضرب رأسه بجدارٍ فولاذيٍّ صَلْد!    

لما سأله لماذا أنا؟ ردَّ الرجل بعنجهية وتعالٍ:

عمومًا لست وحدك.. هناك الكثيرون غيرك..

بعدها علم أن المدير قد حصل على علاوة، ووفرت له المؤسسة سيارة جديدة بمئات الآلاف من الدولارات!

اقتنع بأن المدير كان يتلاعب به، وجعله سُلّمًا كغيره ليلقى حظوة عند إدارة المؤسسة..

ضرب الباب بقدمه بعد أن أنهى عمله.. وأخرج علبة السجائر من جيبه.. ولم يجد فيها سوى واحدة.. نفث دخانها، والقرف يقتله.. لماذا يجب عليه أن يتحمل قذارات البشر، وروائحهم المذرية؟.. إنه مثقف وخريج جامعة.. وكان يعمل بوظيفة مرموقة.. وكانت لديه سيارة منذ سنتين.. لكنه الآن لا يستطيع تحمل نفقات ولده الذي يعاني توحّدًا.. وابنته في البيت لا يستطيع رعايتها حتى وهي تعاني من وعكة صحية بسيطة!

الموت يطوف على الشوارع والبيوت كل ليلة ليحصد بمنجله المئات.. بل الآلاف.. كورونا أصبح وحشًا بشعًا لا يشبع.. فقد الملايين في أمريكا وحدها وظائفهم.. الناس لا يخرجون من بيوتهم إلّا للضرورة القصوى.. فلماذا أنا لا أجلس في بيتي كغيري.. ساعات الحظر أضرب أخماسًا في أسداس، كيف سأوفر لتلك المسكينة الطعام والشراب؟ وكيف سآتي بنفقات ولدي القابع وحيدًا في دار الرعاية.. لولا عناية الله بي لكنت في عِداد الموتى.. 

القبور الجماعية التي أسْهِمُ في حفرها تشعرني بالغثيان كلّ يوم.. عندي طاقة سلبية تكفي لإظلام قارة أمريكا كلها!

اعتدت على رائحة بول الناس، وقذارتهم.. لكن رائحة الموت مرعبة، وخانقة، ومقبضة.. 

يا رب امنحني الصبر.

والآن سوف أنحِّي هذه الأفكار القاتمة عن كاهلي..

عمومًا سأذهب قبل أن أعود للبيت إلى محل البقالة القريب لأشتري بعض الألبان لابنتي.. وأشتري كذلك بعض السجائر، فهي الوحيدة التي أنفث فيها همِّي.. صدري يؤلمني.. 

الألم نفسي يا صاح.. وليس مادِّيًّا..

تأخذه قدماه إلى محل البقالة.. يدخل متثاقلًا، فآخر عشرة دولارات معه في جيبه.. ولا يعلم متى يكون معه غيرها.. 

 ساعدني يا رب..

يفتح الباب في هدوء.. الرجل خلف الحاجز الزجاجي ينظر إليه في لامبالاة..

يتوجه إلى حامل علب الألبان يحصل على علبة متوسطة الحجم.. وهناك على ذلك الرَّفِّ القريب السجائر بأنواعها.. يلتقط علبة رخيصة الثمن.. ومن ثمَّ يتوجه للرجل هناك ..

واجم قليلًا، ويشعر بالقرف.. 

يخرج له الورقة ذات العشرة دولارات. ويريه ما اشتراه..

يضع الرجل الورقة في الآلة التي تكشف التزوير.. وينظر إليها.. ويفركها بيده..

– أنت يا هذا … ضع ما أخذته مكانه.. أنا آسف سأطلب لك الشرطة..

– ماذا تقول يا رجل .. لماذا تطلب لي الشرطة.. أنا معي المال، وقد أعطيتك العشرة دولارات!

– هذه ورقة مزورة يا رجل!

– ماذا تقول؟! أرجوك ضعها في الآلة مرة أخرى!

– أنا آسف وضعتها مرتين يا رجل.. إنها مزورة!

– ولكن ماذا أفعل الآن.. ليس عندي غيرها.. لقد أخذتها بقشيشًا من رجل أتى للمرحاض.. كان رجلًا ضخم الجثة أبيض..

– لا علاقة لي.. ولا شأن لي بما تقول… آسف مرة أخرى..

تمتدُّ يد الرجل للهاتف بجواره.. ويطلب الشرطة..

بعد دقيقة واحدة يأتي شرطي ضخم الجثة في حوالي الأربعين.. ويستعلم عن الأمر..

– سيد فلويد.. لو سمحت ضع يديك خلف ظهرك في هدوء.. لا نريد شوشرة من أي نوع.. افعل ما أقوله بهدوء لو سمحت.. 

– يبدأ فلويد في الغضب.. ويقول بعصبية:

– سيدي الضابط أنا لم أفعل شيئًا.. لقد أخذت الورقة من رجل أبيض ضخم الجثة دخل المرحاض، وخرج في دقيقة واحدة..

– لا شأن لي بما تقول! سآخذك لمركز البوليس، وهو الذي سيعرف منك الحكاية بالضبط..

– يحاول الخروج من البقالة، فيمنعه الشرطي بالقوة.. ويصطدم الاثنان بالزجاج، فينكسر..

يقوم الشرطي بسرعة من على الأرض.. ويتمالك نفسه. ويضع قدمه ويحمّل بكل ثقله على فلويد.. ويضيق نَفَسُهُ شيئًا، فشيئًا.. يتجمع الناس من حولهما..

– لو سمحتم لا داعي للتجمهر والشغب.. أنا أؤدّي عملي!

يسمع أصواتًا من هنا وهناك..

– دعه أيها الضابط. أليس عندك رحمة؟

– اتركه يا رجل وخذ مني أنا الدولارات..

– دعه، فلديه أسرة يا رجل..

الصوت يأتي من تحته مخنوقًا واهنًا ضعيفًا:

– أرجوك دعني لا أستطيع التنفس” I can,t breath” …

تتحشرج أنفاسه، ويختنق أكثر، فأكثر.. ويختفي صوته، ويصمت للأبد..

مات فلويد..

يهزُّه الشرطي، ولكن لا حياة.. أسلم الرجل الأسود روحه لخالقها.. صعدت إليه تشكو ظلم الإنسان.. توارت أنَّاتُهُ خلف فقره، وعِوَزِهِ، وحاجته.. 

لم يحتمل الزنوج ما حدث لواحد منهم.. فقد اجتمعت عليهم مصيبة الجائحة.. ومصيبة الفقد.. ومصيبة الفقر.. لم يحتمل المجتمع الأمريكي رجلًا فقيرًا، فقرر أن يلفظه، قرر أن يتخلص منه كأنه حشرة، أو حيوان مؤذٍ لا يستحق الحياة..

إنها العنصرية في أبشع صورها.. وها هو الرجل الأبيض يكتب اسمه في صفحات القهر والعنجهية والغرور.. وها هي أمريكا زعيمة العالم ترسب في امتحان جديد..

…………………………………………………….

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock