دين ودنيا

عبدُ المُطَّلِب ” الفيَّاضُ” .. جدُّ رسُولِ اللهِ ” صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “

كتب/ د . محمد عبد العال

 

بِذِكْرِ المُصْطَفَى تَحْيَا القُلُوبُ *** وتُغْتفَرُ الخَطَايَا والذُّنوبُ
في ربيعِ الأنْوار .. وفي حُبِّ النبيِّ المُصْطَفَى المُخْتَار
عَرَفْنا في منشورِ الأمسِ أنَّ عبدَ المطلب اسمه (شيبة)، وسُمِّي بذلك لأن مُقدِّمة رأسه كانت بها خُصلةُ شعرٍ بيضاءُ تُشبهُ الشِّيب، وأنه كبُر في يثرب مع أمه سلمى وأهلها من بني النجَّار، بعد موت أبيه هاشمٍ، ثم أخذه عمُّه المُطَّلب –أخو هاشم– إلى مكة، ودخل (المطَّلب) مكة ووراءه (شيبة) على الناقة، فحسِب النَّاسُ أنه اشترى عبدًا فقالوا: إنَّ المطَّلبَ اشترى عبدًا، هو عبدُ المطَّلب، فزجرهم وقال لهم: هذا شيبةُ ابنُ أخي هاشم، ولكن غلب اللقب على الاسم.
كما كان يُلقَّبُ بـ (الفيّاض) لجودِهِ وكرمِهِ الَّذي عمَّ الجميع، حتى إنه كان ينثُرُ الطَّعام على رؤوسِ الجبالِ ليطعمَ الطيرَ والحيوانَ.
يقول عنه ابنُ هشام في سيرته: إنه كان أحسنَ قريشٍ وجهًا، وأمدَّهم جسمًا، وأحلمَهَم حِلمًا، وأجودَهم كفًّا، وأبعدَ الناس عن كلِّ مُوبقة تفسد الرجال.
كان حنيفيًّا يعبدُ الله (تعالى) على دينِ جدِّهِ إبراهيمَ (عليه السلام)، فلمْ يعبدْ صنمًا قط، وحرّم على نفسه الخمرَ، وما كان يأكلُ من ذبيحةٍ نُحرتْ بِاسْم الأزلام، وكان يعتزل الناس وعبادتهم وشركهم، ويفضلُ العبادة في غار حراء من وقت لآخر.
وهو أولُ من اتَّخذ للكعبة بابًا من الحديد، واستنَّ أمورًا جاءت بها شريعةُ الإسلام بعد ذلك، مثل: قطع يد السارق، وتحريم الخمر والزنا.
وهو أول مَن أعاد استخدام بئر زمزم بعد أن ظلّت مغلقة لسنين:
فبعد رحيلِ قبيلة (جُرْهُم) عن مكة، أرادتْ الانتقام من أهلها بسدِّ بئر زمزم، وجعلها مستحيلة على الاستخدام، وتحكي كتب السيرة قصة طويلة عن الهاتف الذي أتى عبد المطلب في المنام وحدّد له مكانًا ليحفر فيه، فحمل معوله بصحبة ابنه الحارث (الوحيد وقتها) وأخذا في الحفر ثلاثة أيام، مُتجاهلين سخرية الناس منهما لقلة عددهما، حتى ظهر لهما الماءُ من جديد.
واعتبر أهلُ مكة أن إعادته بئر زمزم للعمل مكرُمةً اختصَّه الله (تعالى) بها، فعظُم أمرُهُ بينهم، وصار المتحدثَ الرسمي بِاسمهم في الشدائد، الأمرُ الذي ظهر جليًّا في دوره المعروف حين غزا أبرهة الحبشي مكة.
وقصتُهُ مع أبرهة الحبشي يحفظُها التاريخ، حينما عزم على هدْم الكعبة، وسار في جيش عرمرم، لا قِبلَ لأهلِ مكة ولا للعرب به، وقد تعرَّض له في الطريق بعضُ قبائل العرب، ولكنه تغلَّب عليهم، وعند مشارف مكة وجدوا إبلا لعبد المطلب بن هاشم، فاستاقوها، فذهب عبدُ المطلب إليه، وكان وسيمًا جميلًا، تعلُوهُ المهابةُ والوقارُ، فاستعظمه أبرهةُ، فلما كلّمه في الإبل عجب وقال له: أتكلمني في الإبل، ولا تكلمني في بيت فيه عزُّك وشرفُك وشرفُ آبائك؟! فقال عبدُ المطلب هذه الكلمة التي سارت مسير الأمثال: «أنا ربُّ الإبل، وللبيت ربٌّ يحميه»
ثم رجع عبدُ المطلب وكان قويَّ الجنان، رابطَ الجأش، لا يضطربُ ولا يضعفُ عند المفاجأة، فأخذ بحلقة باب الكعبة ومعه نفرٌ من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، ثم أنشد قائلًا:
اللهمّ إنّ المرءَ يمنعُ … رَحْلَهُ فامنع رِحالَكْ
وانصرْ على آلِ الصَّليبِ … وعابدِيه اليومَ آلََكْ
لا يغلبنَّ صليبُهم … ومِحالُهُم أبدًا مِحَالكْ
إنْ كنتَ تاركَهُم وقبلتَنا … فأْمُرْ مَا بَدَا لَكْ
:
فرح عبدُ المُطَّلِب بميلاد النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيذكر أصحاب السير أنه لَمَّا وَضَعَتْهُ أُمُّهُ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أَرْسَلَتْ إلَى جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: أَنَّهُ قَدْ وُلِدَ لَكَ غُلَامٌ، فَأْتِهِ فَانْظُرْ إلَيْهِ، فَأَتَاهُ فَنَظَرَ إلَيْهِ، فأَخَذَهُ، فَدَخَلَ بِهِ الْكَعْبَةَ، فَقَامَ يَدْعُو اللَّهَ، وَيَشْكُرُ لَهُ مَا أَعْطَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِ إلَى أُمِّهِ فَدَفَعَهُ إلَيْهَا، وأنشد شعرًا وَهُوَ يُعَوِّذُهُ فقَالَ:
الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَعْطَانِي … هَذَا الْغُلَامَ الطّيّبَ الْأَرْدَانِ
قَدْ سَادَ فِي الْمَهْدِ عَلَى الْغِلْمَانِ … أُعِيذُهُ بِالْبَيْتِ ذِي الْأَرْكَانِ
حَتّى يَكُونَ بُلْغَةَ الْفِتْيَانِ … حَتّى أَرَاهُ بَالِغَ الْبُنْيَانِ
أُعِيذُهُ مِنْ كُلّ ذِي شَنَآنِ … مِنْ حَاسِدٍ مُضْطَرِبِ الْعِنَانِ
ذِي هِمّةٍ لَيْسَ لَهُ عَيْنَانِ … حَتّى أَرَاهُ رَافِعَ اللسانِ
وكفل الرسولَ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بعد وفاة أمه، وكان يُكرمُهُ ويخصهُ من بين أولاده جميعًا، يحكي السهيلي في (الروض الأُنُف): أنه كَانَ يُوضَعُ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ فِرَاشٌ فِي ظِلّ الْكَعْبَةِ، فَكَانَ بَنُوهُ يأتون وينتظرونه، فيَجْلِسُونَ حَوْلَ الفِرَاشِ حَتّى يَخْرُجَ أبوهم إلَيْهِم، ولَا يجرؤُ أحدُهُم أن يَجْلِسَ عَلَيْهِ إجْلَالًا لَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَأْتِي -وَهُوَ غُلَامٌ صغيرٌ- حَتّى يَجْلِسَ عَلَيْهِ، فَيَأْخُذُهُ أَعْمَامُهُ لِيُؤَخّرُوهُ عَنْهُ، فَيَقُولُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ إذَا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُمْ: دَعُوا ابْنِي، فَوَاَللهِ إنّ لَهُ لَشَأْنًا، ثُمّ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى الْفِرَاشِ، وَيَمْسَحُ ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، وَيَسُرّهُ مَا يَرَاهُ يَصْنَعُ.
ذلك هو الجدُّ القريب الذي تربى النبي في كنفه، والذي رأى فيه أول ما رأى عزَّةَ الرجال، وحكمةَ الشيوخ، وعطف الأبوة التي استعاض بها عن أبيه الذي لم تكتحلْ عيناه برؤيته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock