دين ودنيا

وقفه مع مشروعية الصيام ” الجزء التاسع “

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء التاسع مع مشروعية الصيام، وقد توقفنا مع الآيه الكريمة ” أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل” فالآية تدل على الإِذن بالمباشرة في ليلة الصيام، ويستفاد من ذلك أن الصيام يكون عن الأكل، والشرب، والجماع، وسائر المفطرات، ويرجع سبب تحريم الجماع في نهار رمضان، واعتباره من المفطرات إلى أن المقصود من عبادة الصيام هو كفّ النفس عما اعتادت عليه من الشهوات، كالأكل، والشرب، وخصوصا أن الراحة والانغماس فى الشهوات أمر يزيد من وساس الشيطان، ويضعف العزيمة على العبادات والعمل، والجماع من نعم البدن، مثله فى ذلك مثل الأكل والشرب ولذلك حرمه الله سبحانه وتعالى فى نهار رمضان، وجعله من المفطرات، بل رتب على من أفسد صومه بالجماع كفارة مغلظة.

وقد بيّن أهل العلم أن من جامع زوجته فى نهار رمضان ترتب عليه الإثم، وبطل صيامه، ووجب عليه إمساك ما تبقّى من النهار إذ إن كل من أفسد صيامه في نهار رمضان بغير عذر شرعى وجب عليه إمساك بقية اليوم، بالإضافة إلى وجوب قضاء ذلك اليوم، والكفارة، ومن الجدير بالذكر أن كفارة الجماع فى نهار رمضان من أغلظ الكفارات وهى تكون بعتق رقبة، فإن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع، فإطعام ستين مسكينا، أما إن كان الصيام نافلةً وأفطر المكلف بالجماع، فلا يترتب عليه شيء، وقد بيّن أهل العلم حكم من جامع زوجته في نهار رمضان ناسيا فقالوا بعدم بطلان صيامه قياسا على حكم من أَكل أو شرب ناسيا، ورفع المؤاخذة عنه، وإن كان هذا مستبعد الوقوع في صيام الفريضة، خصوصا أنه فعل مشترك بين الزوجين، وأما عن حكم التقبيل للصائم، فإن التقبيل الذى يفطر الصائم بسببه هو ما نتج عنه إنزال، وهذا بإجماع أهل العلم، أما إن لم ينتج عن التقبيل إنزال فيعتمد الحكم على طبيعة الصائم نفسه.

فإن كانت القبلة تؤثر فيه، وتحرك شهوته، فحكمها الكراهة، إلا أنها لا تعد مبطلة للصيام، وقد صح عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، أنها قالت ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه أملككم لإربه” أما إذا كانت القبلة لا تؤثر في الصائم، ولا تحرك شهوته، فحكمها الإباحة، إلا أن الأَولى تركها استدلالا بما رُوى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال ” هششت فقبلت وأنا صائم فقلت يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما، قبلت وأنا صائم، فقال صلى الله عليه وسلم ” أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم؟ قلت لا بأس، قال ” فمه” وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن علة الحكم مرجعها إلى تحريك الشهوة أو الإنزال، وتنتقل بين الكراهة والجواز تبعا لذلك، ولا فرق في الحكم بين الشاب وكبير السن، بينما ذهب المالكية إلى كراهة التقبيل للصائم مطلقا، وتجدر الإشارة إلى أن أهل العلم اختلفوا فى حكم نزول المذى المصاحب للتقبيل في نهار رمضان فقال كل من الإمام أحمد.

والإمام مالك رحمهما الله بأنه مُبطل للصيام، وقال الإمام الشافعى وأبو حنيفة بأنه غير مُبطل للصيام، وتأكيدا على ما سبق فقد استدل أهل العلم بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال ” أن رجل سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له، وآتاه آخر فسأله فنهاه فإذا الذى رخص له شيخ والذى نهاه شاب” ولا يخفى أن المقصود بالمباشرة الواردة فى الحديث لا يتضمن الجماع، وإنما يقصد بها الملامسة، وما فى حكمها كالتقبيل، وبيّن أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرخص للشاب لأنه رأى أن شهوته أشد من الشيخ الكبير، مما يجعله أكثر عُرضة لما قد يفسد صيامه، وأما عن الأحكام المتعلقة بنزول المنى للصائم، فإنه يعرَّف المنى بأنه سائل ثخين لونه أبيض مائل للصفرة، رائحته كرائحة طلع النخيل، أو العجين، ويخرج دفقا عند اشتداد الشهوة، ويعقب نزوله فتور فى الجسم، والمنى طاهر، إلا أنه يوجب الغسل، أما المذى فهو سائل لزج شفاف اللون، يخرج عند الشهوة من غير تدفق، والمذى نجس.

إلا أنه لا يوجب الغسل، بل الوضوء، ومن الجدير بالذكر أن حكم نزول المنى يختلف بحسب الوسيلة التى نزل بها فنزوله بسبب التقبيل، أو الملامسة بين الرجل وزوجته، أو الاستمناء يفسد الصيام، ويوجب القضاء باتفاق المذاهب الأربعة، إلا أنه لا تترتب على ذلك كفّارة لأن حكم الكفارة ورد فى الجماع دون غيره، أما فى حال نزول المنى بمجرد التفكير من غير لمس، أو نظر، أو استمناء، أو فى حال نام الصائم فاستحلم، وأنزل المنى، فلا يفسد صيامه، وذلك بإجماع أهل العلم لأن الأمر خارج عن إرادته، وبعد بيان حكم نزول المنى للصائم، يجدر بيان معنى الاستمناء، وحكمه إذ يعرف الاستمناء لغة بأنه طلب خروج المنى، واصطلاحا بأنه إنزال المني دون الجماع، كاستعمال اليد، وغير ذلك من الوسائل، والاستمناء محرم لقول الله سبحانه وتعالى ” والذين هم لفروجوهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون” وفى الآية دليل على تحريم الاستمتاع بغير الزوجة.

وقد ذهب كل من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وعامة الحنفية إلى أن الاستمناء باليد يبطل الصيام، وخالفهم أبو القاسم من الحنفية إذ قال بأن الاستمناء لا يبطل الصيام لأنه مختلف كليا عن الجماع، أما الاستمناء بالنظر سواء بالتكرار، أم لا، فقد ذهب كل من المالكية، والحنابلة إلى أنه مبطل للصيام، وخالفهم الحنفية، والشافعية فى المعتمد لديهم فقالوا إنه لا يبطل الصيام مطلقا، ولا تجب الكفارة فى الحالة السابقة إلا عند المالكية الذين قالوا بوجوبها قطعا إن تكرر النظر، وكان الإنزال عادة، فإن أشرف حكمة لأجلها شرع الله تعالى الصيام ما ذكره الملك العلام حيث قال معقبا بيان فرض الصيام ” لعلكم تتقون” ولأجل التقوى تهون المشاق, ويسهل العسير, وهل شرعت الرسالات؟ وهل قامت الدعوات؟ وهل خُوّف العباد ورهبوا, ووعدوا ورغبوا؟ وهل أمر بالأوامر إلا ليتحقق في قلوب العباد تقوى الله؟ والصيام من أجل الأعمال التي تعمر القلب بتقوى الله, قال الرازى “إن الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى.

فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهوّن لذات الدنيا ورياستها، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، فمن أكثر منه هان عليه أمر هذين، وخفت عليه مؤونتهما، فكان ذلك رادعا له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهونا عليه أمر الرياسة فى الدنيا، وذلك جامع لأسباب التقوى” فإن النفوس بلا تقوى تصبح خواء لا ترتدع عن معصية، ولا تنشط لطاعة, وزاد التقوى خير زاد يدفع المرء ليقبل على الطاعة بنشاط، وليراقب الله فى كل أموره, وذلك ينال إذا أخذ الناس شهادة التقوى من مدرسة الصيام، فهل تصورت ذلك الصائم يلهبه العطش يرى الماء ويقدر عليه, ولا يطلع بشر عليه، ولكنه يتحرز حتى من القطرة تدخل فى فيه حين يمضمض؟ فما الذى دعاه لذلك إلا التقوى والمراقبة؟ تقف المرأة بين أصناف المطاعم والمشارب حال صنعها لا تذوق من شيئا, بل يسأل الناس حتى عن القطرات العلاجية هل تفطر؟ فما الذى جعلهم يتحرزون مع أنهم قد لا يرون إلا تقوى الله ومراقبته تلك التى وجدت في القلب مع الصوم ومتى ما حيت ونمت فالعبد بخير وفى عافية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock