منوعات

وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ

 

كتب/د.محمد عبد العال.

من الألفاظِ التي تُفْهمُ في القرآنِ خَطَأً لفظةُ (وَيَسْتَحْيُونَ)؛ حيثُ يذهبُ بعضُ الناسُ في تفسيرِها إلى أنَّها بمعنى: يغتصبُون وينتهكُون الأعْراضَ.

وهذا ليس مُرادًا من الكلمة مُطلقًا، فجمْهورُ المفسِّرين على أنَّ “وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ” معناها: يَتْرُكُونَهُنَّ أَحْيَاءً.

وبيانُ ذلكَ:

أنَّ فِرْعَوْنَ رَأَى رُؤْيَا فِي مَنَامِهِ، أَنَّ نَارًا عظيمةً أَقْبَلَتْ مِنْ ناحية بَيْتِ الْمَقْدِسِ في بلاد الشام، ودخلتْ على ديارِ مصرَ، حَتَّى اشْتَمَلَتْ عَلَى بُيُوتِ مِصْرَ، ولكنَّها كانتْ تنتقي ديارَ الْقِبْطِ، وهم حاشيةُ فرعونَ ووزراؤُه والمُقرَّبون منه، بينما تتركُ ديارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الذين كان يستضعفُهُم فرعونُ، ويتخذُهُم عبيدًا وخَدَمًا. 

فقام فِرْعَوْنُ من نومِهِ فزِعًا مهمُومًا مذعُورًا، ودَعَا السحرةَ والكهنةَ والمُعبِّرين ومُفسرِّي الأحلام، وكلَّ من له علاقةٌ بتعبير الرؤى والأحلام؛ ليُفسرِّوا له تلك الرؤيا، فاجتمعت كلمتُهُم على أنَّه: 

يخرجُ من هؤلاء الذين أقبلوا من بيتِ الْمَقْدِسِ -وهم بنو إسرائيل- رجلٌ يكونُ هلاكُك وذهابُ مُلكك على يديه.  

وعلى الفور اتَّخذ فرعونُ قراره: فَأَمَرَ جُنُودَهُ وأتباعَهُ أَنهُ لَا يُولَدُ غُلامٌ في بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا ذَبَحُوهُ، وَلا تُولَدُ لَهُمْ بنتٌ إِلا تركوها، وقال لهم:

انظروا كلَّ امرأةٍ حاملٍ في المدينة، فإذا وضعتْ حملها فانظروا إليه، فإن كان ذكرًا فاذبحوه، وإن كان أنثى فخلُّوا عنها.

فهذا معنى “وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ” أي: يَتْرُكُونَهُنَّ أَحْيَاءً. (ينظر تفاسير: مقاتل 1/ 103، والطبري: 2/43، والبغوي: 1/113).

فالاستحياء -هنا- إنما هو (استفعال) من الحياة، يعني: طلب الحياة.

يقول السمرقندي: وأصله في اللغة من الحياة، يقال: استحْياه يستحييه إذا تركه حيًّا، وكانوا يذبحون الأولاد، ويتركون النساء أحياءً للخدمة. (تفسير السمرقندي: 1/51)

وجديرٌ بالذكر:

أنَّك إذا وجدت فعلًا مسبوقًا بهذه الأحرف الثلاثة (الألف والسين والتاء) فاعلمْ أنها للطلب، فـ: استسقى يعني: طَلَبَ السُّقيا، واستغفر يعني: طَلَبَ المغفرة، واستعلم يعني: طَلَبَ العلم بالشيء، ومنه الاستعلامات الموجودة في مداخل المصالح وغيرها.

:

وبدأ الذبحُ في غلمان بني إسرائيل؛ حتى قيل: إنَّه قتل فِي طَلَبِ مُوسَى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) اثني عشر ألف صبي. 

وَقَالَ وَهْبٌ: بَلَغَنِي أَنَّهُ ذَبَحَ فِي طَلَبِ مُوسَى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) تسعين ألف وليد. (ينظر تفاسير: الثعلبي: 7/234، والبغوي: 1/113، والقرطبي: 13/251)

فلما فعلوا ذلك بدأ الغلمان يَقِلُّون في بني إسرائيل، مما يعني: أنه سيفنى الخدمُ والعبيدُ الذين يخدِمُون فرعونَ وأتباعَه، فدخل رءوسُ القوم وكِبارُهم على فرعونَ مذعورين، فكلَّموه في ذلك وقالوا: لو استمرَّ الأمر على ذلك لهلك الرجالُ من بني إسرائيل، ولم يبق مَنْ يخدِمُنا، فيوشك أن يقع العملُ على غلماننا، فلو أنك تُبقي من أولادهم من يخدمنا؟

 فعدَّل فرعونُ القرار بالتخفيف، وأمر أن يذبحوا الغلمان سنةً ويتركوهم سنةً، فلما كان في السنة التي لا ذبح فيها وُلد سيدنا هارون (عليه السلام)، فتُرك ولم يُذبح، وهو أكبر من سيدنا موسى (عليه السلام) بعام، فلما كان في السنة التي يذبحون فيها حملت أم موسى به. (ينظر: تفاسير الطبري: 2/44، وابن أبي حاتم: 1/106، والثعلبي: 1/192) 

وهذا يفسر لنا كيف وُلد هارون في هدوء، وعاش دون أن يمسه أحد بسوء.

:

ولقائلٍ أن يقول: إن الآية تقول “وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ”، ومعلوم أن كلمة (النساء) تُطلقُ على المرأة الكبيرة؟!

 وجوابُ ذلك عند الإمام الطبري في تفسيره قال:

وجائزٌ أن تُسَمَّى الطفلة من الإناث في حال صباها وبعد ولادتها: (امرأة)، وأن تُسَمَّى الصبايا الصغار وهن أطفال: (نساء). (الطبري: 2/46) 

وقال الشوكاني: وَعَبَّرَ عَنِ الْبَنَاتِ بِاسْمِ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ جِنْسٌ يَصْدُقُ عَلَى الْبَنَاتِ. (فتح القدير: 1/98، وفتح البيان لمحمد صديق خان: 1/165)

:

ومعنى: “يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ” أي: يُكَلِّفُونَكُمْ وَيُذِيقُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ، وهو أَشَدُّ الْعَذَابِ وَأَسْوَأُهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ جَعْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَدَمًا وعَبيدًا، وَصَنَّفَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ: فَصِنْفٌ يَبْنُونَ، وَصِنْفٌ يَحْرُثُونَ ويزرعُون، وصنف يخدِمون، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ فِي عمل ضربَ عليه الجزيةَ.

قال وَهْبٌ: كَانُوا أَصْنَافًا فِي أَعْمَالِ فرعون، فذوو القوة يَنْحِتُونَ السَّوَارِيَ مِنَ الْجِبَالِ حَتَّى قُرِحَتْ أَعْنَاقُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَدَبِرَتْ ظُهُورُهُمْ مِنْ قَطْعِهَا وَنَقْلِهَا، وَطَائِفَةٌ يَنْقُلُونَ الحجارة والطين يَبْنُونَ لَهُ الْقُصُورَ، وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَضْرِبُونَ الطوب اللَّبِنَ، وَيَطْبُخُونَ الْآجُرَّ (يعني: الطوب)، وَطَائِفَةٌ نَجَّارُونَ وَحَدَّادُونَ، وَالضَّعَفَةُ مِنْهُمْ يَضْرِبُ عليهم الخراج، وَالنِّسَاءُ يَغْزِلْنَ الْكتَّانَ وَيَنْسِجْنَ الثِّيابَ. (ينظر: تفسير البغوي: 1/113).

:

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock