دين ودنيا

فى طريق الهدايه ومع فضل الحديث ” الجزء الثانى عشر “

إعداد / محمـــد الدكــــرورى

ونكمل الجزء الثانى عشر مع فضل الحديث، وقد توقفنا مع شأن التابع مع المتبوع فكانت بسبب ذلك تابعة له، إذ التفسير تابع للمفسر، مرتبط وجوده بوجوده، ومما جاءت به من ذلك حرمة زواج المرأة على عمتها أو على خالتها، وتحريم لحوم الحمر الأهلية، ولحم كل ذي ناب من السباع، أو ذي مخلب من الطير، وغير ذلك مما يدخل في نطاق قوله تعالى ” ويحرم عليهم الخبائث” وذلك مصداق قوله تعالى في سورة النحل ” وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه ” وقوله تعالى في سورة إبراهيم ” وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ” وقوله تعالى في سورة النحل ” وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ” وهذا إلى أن الكتاب مقطوع بوروده جملة وتفصيلا، أما السنة النبوية فمظنونة الورود تفصيلا، ولا يصح القطع بورودها إلا بالنظر إلى جملتها، فإنا نقطع بأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أقوالا وأفعالا وتقريرات في الأمور الشرعية قد أثرت عنه، وذلك ما أطلق عليه اسم السنة النبوية ولكنا لا نقطع في أي حديث معين منها بأنه قد صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون متواترا، ونادر فيها المتواتر، فكان القرآن الكريم لذلك في منزلة أعلى من منزلة السنة من حيث الاطمئنان إلى صحة ورودهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن درجة المظنون دون درجة المقطوع به.

وعلى هذا الوضع من تقديم الكتاب على السنة من حيث هو أصل وأساس للدين لما نزل به من أصوله الأساسية وقواعده الكلية، وأهدافه العامة التي بني عليها، فكانت السنة تابعة له ومبينة له لا تختلف عنه، وكان عمل الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنهم أنهم كانوا حينما تعرض عليهم حادثة بحثوا عن حكمها في كتاب الله، فإن لم يجدوا بحثوا عنه في سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجدوا اجتهدوا، وهذا ما ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من معاذ بن جبل حين أرسله قاضيا إلى اليمن، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال له حين ذاك ” بم تقضي؟ فقال معاذ أقضي بكتاب الله، قال صلى الله عليه وسلم “فإن لم تجد؟ قال معاذ أقضي بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم “فإن لم تجد؟ قال معاذ أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره وقال “الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ” رواه أحمد، والترمذي، وليس يعني هذا الذي روي من صنيع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بحثهم عن حكم ما يعرض لهم من الحوادث أنهم حينما ينظرون في كتاب الله باحثين عنه لا ينظرون إلى ما عملوه من سنة في بيان ما يدل على الحكم المطلوب من الكتاب، بل معناه أنهم ينظرون في كتاب الله متطلبين معناه لتعرف الحكم منه.

وذلك ما يستلزم النظر في السنة النبوية عند ذلك، لأن البحث عما يدل عليه الكتاب يستوجب البحث فيما ورد فيه من بيان صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شك أن هذا ما كان يعنيه معاذ بن جبل حين قال أقضي بكتاب الله، فإن قضاءه لا يكون قضاء بكتاب الله إلا إذا كان على وفق معناه وما أريد منه، وذلك ما قد تكون السنة طريقا إليه، فإن تركت حينئذ لم يكن القضاء عند تركها قضاء بكتاب الله تعالى ولا بما نزل به، بل قضاء بغير ما حكم الله، وذلك ما لا يكاد أن يكون محل ريبة عند ذي علم بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بحثهم عن حكم ما يعرض لهم من حوادث، وهو ما يتفق مع ما جاء في الكتاب عن بيان السنة له؛ بل وما يعد مخالفته والإعراض عنه خروجا عما أمر الله به في كتابه، مما دلت عليه الآيات التي أشرنا إليها فيما سبق، من وجوب طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من كتاب وسنة نبوية مشرفة، فما كان كل منهما إلا وحيا أوحي به إليه وأمر بتبليغه، هذا بلفظه الذي به نزل، وهذا بمعناه الذي عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظه وعبارته وما كانت التفرقة بينهما راجعة إلى تقديم أحدهما على الآخر في وجوب العمل والطاعة، وإنما كانت لإرادة الإعجاز بأولهما، وهو الكتاب وجعله حجة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان النظر فيه أولا.

لأنه الجامع لأصول الدين الهادي إلى الطريق، الكاشف عن معالمه، العاصم من الضلال فيه، ومن ذلك يتبين أن ليس في حديث معاذ بن جبل ما يدعو من ناحية متنه، وما يدل عليه إلى الشك فيه، وإلى محاولة رده من ناحية سنده، وأما ما قيل فيه من أنه ليس بمتصل كما قال الترمذي، إذ رواه شعبة، قال حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو عن أناس من أصحاب معاذ عن معاذ رضي الله عنه فقد قال فيه الغزالي في المستصفى، إنه حديث تلقته الأمة بالقبول، ودافع عنه ابن القيم في إعلام الموقعين، في ناحية انقطاعه فقال إن شهرة أصحاب معاذ بن جبل بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى، فإذا كان قد روي عن غير مُسمّين فهم من أصحاب معاذ بن جبل ولا يضره ذلك، لأن ذلك دليل شهرته إذ لم ينفرد بروايته واحد منهم، بل رواه الحارث بن عمرو عن جمع منهم، وليس يعرف فيهم متهم ولا كذاب ولا مجروح، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم، وذلك ما يجب أن يكون عليه فهمنا لما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يبحثون عن حكم ما يعرض عليهم من الحوادث من الكتاب، إذ لا يستغني تعرف ما جاء به الكتاب من أحكام عن النظر في السنة، فقد جاءت كما بينا بيانا له، ولا يستغني المبين عن بيانه، ألا يرى أن من آياته ما قد يحتمل أكثر من معنى، فتعين السنة النبوية المعنى المراد من المعاني المختلفة.

وعندئذ يترك ما عداه، وأن من آياته ما يجيء مطلقا فتقيده السنة، وما يجيء عاما فتخصصه السنة إلى غير ذلك من البيان، كبيانها للمراد من اليد في آية السرقة، وكبيانها لمن تصح له الوصية، ولمقدار ما يوصى به في آية الوصية، ولمن يكون حده الجلد إذا زنى في آية جلد الزاني، وما سوى ذلك من بيان ما يجب مراعاته والأخذ به عند النظر في الكتاب، ومما تقدم يتبين لنا كيف جاءت السنة مبينة للكتاب، وكانت لذلك تابعة له، دائرة في محيطه لا تخالفه ولا تخرج عنه، وذلك ما قد يدل على أنها لا تخالف الكتاب، ومن ثم لا تنسخه، وذلك ما ذهب إليه بعض العلماء وعلى رأسهم الشافعي رضي الله عنه فقد منعوا ذلك، مخالفين ما ذهب إليه الجمهور من أن الكتاب قد نسخ بالسنة في بعض ما جاء به من الأحكام، استنادا منهم إلى أن آية الوصية وهي قوله تعالى ” كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين، فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم ” قد نسخت بقوله صلى الله عليه وسلم “لا وصية لوارث” وإلى أن آية جلد الزاني، وهي قوله تعالى ” الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلده ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله ” وقد نسخت بأحاديث الرجم في المحصن، وغير ذلك مما لا يرى فيه هؤلاء المانعون دليلا لهم فيه على جواز نسخ السنة للقرآن.

ولا على وقوعه، إذ الواقع أنه لا نسخ في هذه الآيات، وذلك ما ذهب إليه كثير من العلماء كالشافعي وأكثر أصحابه، وكثير من الأصوليين، وهو مذهب أهل الظاهر ورواية عن أحمد، وقد يكون هذا هو رأي أكثر من ذهب إلى جواز نسخ القرآن بالسنة من الناحية العقلية لا الواقعية، ذلك لأن من ذهب إلى جواز ذلك إنما جوزه مشترطا أن يكون الناسخ من السنة متواترا، وتحقق التواتر في الأخبار أمر لا يكاد يوجد، وفيه من الشك والاختلاف ما يقضي بعدم وجوده، وعلى ذلك فليس يوجد بالسنة ما يصلح ناسخا للقرآن، ويكون البحث في هذه المسألة بحثا في غير واقع، أو نادر الوقوع، ولا كبير جدوى فيه، كما قال الشاطبي، وأما من ذهب من الفقهاء إلى إلحاق المشهور من السنة بالمتواتر في جواز نسخ القرآن به، وهو ما نسب إلى الحنفية، فذلك مذهب بعيد عن الصواب، والمسألة مفصلة في عمل الأصول فيرجع إليها من يشاء، ونتيجة لما تقدم يتبين سلامة ما قررنا من أن السنة تابعة للكتاب، وأنها في درجة أدنى من درجته، وأنها ترجع دائما في معناها، وفيما تأتي به إلى الكتاب وأصوله، وأنها مبينة له، تفصل مجمله، وتبين مشكلة، وتقيد مطلقة، وتخصص عامه، ولا تأتي بشريعة جديدة إلا كان القرآن دالا عليها دلالة إجمالية، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى ” ما فرطنا فى الكتاب من شيء ” وقوله تعالى ” ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين “

وعلى هذا فما يجيء من الأخبار معارضا للقرآن لأصوله وأحكامه يجب رده، وتقديم القرآن عليه، إذ إن ذلك من أوجه الطعن في الخبر المسقطة له كما قرر ذلك علماء الحديث، ومن أجل ذلك أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان أمره بذلك على أوضاع مختلفة، وبأساليب متعددة، وبدلالات عديدة، وثقت هذا الأمر، وأكدت هذا الوجوب، وعززت هذا الطلب، فجاء أمره صريحا في كثير من الآيات، بل إنه سبحانه وتعالى قد جعل من لوازم الإيمان أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع لا يذهبون مذهبا إلا بإذنه، فقال الله تعالى ” إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوا” والآيات في ذلك عديدة والآثار كثيرة، فليس في وجوب امتثال أمره صلى الله عليه وسلم بعد الذي ذكرنا محل ريبة مرتاب، ولا شك متردد، وعلى هذا كانت السنة هي الأصل الثاني من أصول الدين، والمصدر الثاني من مصادر الأحكام الشرعية، وكان ذلك وضعها في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، ولا تزال على ذلك إلى يومنا هذا، وستظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، ولقد وجد الإمام أبو بكر الأبهري أن في موطأ مالك أكثر من سبعين حديثا، فترك مالك نفسه العمل بها مع روايته لها، وبناء على ذلك فإنا نريد أن نعمد إلى ما وجه من شبه ومطاعن إلى السنة جملة من حيث روايتها.فى طريق الهدايه ومع فضل الحديث ” الجزء الثانى عشر “

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock