دين ودنيا

نبذه عن الحلال بيّن والحرام بيّن ” الجزء التاسع “

إعداد / محمــــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء التاسع مع الحلال بيّن والحرام بيّن، ومن هذا الباطل ما سماه الله تعالى بالسحت، فقال تعالى ” سماعون للكذب أكالون للسحت” وقال عبد الله بن مسعود وغيره “السحت هو الرّشى” وقال ابن سيرين “السحت الرشوة في الحكم” وإن تسمية الرشوة هدية، أو مكرمة، أو حلاوة، لا يغير من واقعها شيئا، فقد أورد البخاري ومسلم في باب تحريم هدايا العمال، أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من بني أسد يقال له ابن اللتبية على الصدقة وهى الزكاة، فلما قدم قال “هذا لكم، وهذا أهدي لي” فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال “ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذى نفسي بيده، لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر” ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتى إبطيه، فقال “ألا هل بلغت” ثلاثا” رواه البخارى ومسلم، ولقد حاول اليهود رشو عبد الله بن رواحة.

حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ليخرص أى يقدر نخلهم، فجمعوا له حُليا من حُلي نسائهم فقالوا له “هذا لك وخفف عنا، وتجاوز في القسم” فقال عبد الله بن رواحة “يا معشر اليهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذاك بحاملي على أن أحيف أى أجور عليكم، فأما ما عرضتم من الرشوة، فإنها سحت، وإنا لا نأكلها” فقالوا “بهذا قامت السماوات والأرض” رواه مالك، ولقد شدد الإسلام في تحريم الرشوة حتى جعل المتورط فيها سواء كان آخذا، أو معطيا، أو واسطة بينهما ملعونا، مطرودا من رحمة الله عز وجل، فقال النبى الكريم صلى الله عليه وسلم “لعنة الله على الراشى والمرتشى” رواه ابن ماجة، فكيف يرضى المسلم لنفسه أن يكون ملعونا في الدنيا وفي الآخرة، وكيف يرضى لنفسه أن يطعم أهله وأبناءه المال الحرام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول”إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به” رواه الترمذى، وأيضا فإن هناك آفة أخرى من أفات أكل الحرام، والاعتداء على أموال الناس بالباطل، وهى آفة قَضت مضاجع الغيورين على طهارة أوطانهم.

وعلى سلامة مجتمعاتهم، إنها آفة تشجع على نشر العداوات، وتزرع الأحقاد والنزاعات، إنها آفة السرقة التي صارت مصدرا للتأكل عند كثير من أصحاب الضمائر الفاسدة، من الفقراء والأغنياء على حد سواء، فاستمرأوا أكل الحرام، واسترخصوا الاعتداء على أموال الناس، ولم يبالوا بصرخات المعتدى عليهم، ولا أنات المسروقين، ولا ما يجأرون به إلى الله عز وجل من الدعاء عليهم، فإنها السرقة التي تعمي وتصم، وتجعل النفوس مريضة بحب البطش والتسلط والاعتداء، فقال ابن القيم رحمه الله ” فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم ولا بالفواحش ولا بالسرقه والخيانه، لأنها أكبر من ذلك وأجل، والنفس المهينة الحقيرة والخسيسة بالضد من ذلك، فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها” فالسارق نفسه مهينة وضيعة مهزوزة، لا تأخذه بالمسروق رأفة ولا رحمة، بل هو ذئب لا يهمه غير نهش فريسته، ولو كانت أمّه أو أباه، ولذلك كانت العقوبة في شرع الله شديدة، وهي قطع اليد السارقة، استئصالا لهذا الداء من جذوره، ومنعا للسارق من العودة.

فهل سمعتم بالرمال تسرق من الشواطئ، وتباع للاستعمال في البناء؟ وهل سمعتم بسرقة الختم والمادة السرية، التي يطبع بها على اللحوم لبيان صلاحيتها للاستهلاك؟ وهل سمعتم بوجود عصابات متخصصة في سرقة حجاج بيت الله الحرام؟ وهل سمعتم بالذين يسرقون أراضي الغير بالاستيلاء عليها بدون وجه حق؟ والنبى الكريم صلى الله عليه وسلم يقول”أيما رجل ظلم شبرا من الأرض، كلفه الله عز وجل أن يحفره حتى يبلغ به سبع أرضين، ثم يطوقه يوم القيامة، حتى يقضى بين الناس” صحيح الجامع، ويقول صلى الله عليه وسلم “أعظم الغلول عند الله عز وجل ذراع من الأرض، تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار، فيقتطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعا، إذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين” فإن السرقة جريمة مستقبحة مسترذلة، مستبشعة، وقد كثرت النصوص من كتاب الله تعالى وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم في تحريمها وذمها، فقال الله تعالى ” والسارق والسارقه فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم”

وقال ابن عطية “وهذا أى يقصد السارق، هو الذي يجب عليه القطع وحده من بين أَخذة الأموال، لخبث هذا المنزع، وقلة العذر فيه” ولقد سرقت امرأة مخزومية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا أسامة بن زيد شفيعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعفو عنها لشرفها ومكانتها، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال “أتشفع في حد من حدود الله؟” ثم قام خطيبا وقال “يا أيها الناس، إنما هلك الذين من قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها” رواه البخارى ومسلم، والسارق إذا مات وهو متلبس بالسرقة، فقد مات على غير إيمان، لأن الإيمان فارقه وهو يسرق، فيقو ل النبي صلى الله عليه وسلم “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وذلك لأنها ذات شرف، حين ينتهبها وهو مؤمن” رواه البخارى ومسلم.

وإن سرقة القليل، هى استدراج لسرقة الكثير، فعن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال “لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده” رواه البخارى ومسلم، وإن المال أحد العناصر الأربعة التي يسأل عنها العبد يوم القيامة قبل أن تزول قدماه، قال النبي صلى الله عليه وسلم “لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه” رواه الترمذى، ولقد عظم النبي صلى الله عليه وسلم أمر السرقة، حتى لو كانت في الشيء التافه الحقير، فقال صلى الله عليه وسلم بعد أن نصره الله في غزوة حنين، وغنم المسلمون أموالا كثيرة، وقد أخذ شعرة من بعير “إن هذه الوبرة من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم، إلا الخمس والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط، وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا، فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة” رواه أحمد، ولذلك كان الصحابة يتحرجون من الوظائف التي فيها مخالطة الأموال العامة.

خوفا على أنفسهم، فعن أبي مسعود الأنصارى رضي الله عنه قال بعثني النبي صلى الله عليه وسلم ساعيا، ثم قال “انطلق أبا مسعود، ولا ألفينك يوم القيامة تجيء وعلى ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته” قال “إذا لا أنطلق” قال “إذا لا أكرهك” رواه ابن ماجة، وعلى كل سارق عزم على التوبة إلى الله تعالى أن يعيد ما سرقه إلى صاحبه، فإن عجز عن الوصول إلى صاحب المال أو إلى ورثته من بعده، تصدق به ونوى أجره لصاحبه، وأيضا فإن هناك آفه لا تقل خطورة عن سالفاتها، بل تعتبر كبيرة من كبائر الذنوب، وعظيمة من عظائم الأعمال، انتشرت بين المسلمين انتشار النار في الجحيم، واتخذت مطية للسطو على مستحقات الغير، والانقضاض على أموالهم وممتلكاتهم ظلما وعدوانا، إنها شهادة الزور التي اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم أحدى علامات الساعة، حيث قال “إن بين يدي الساعة شهادة الزور، وكتمان شهادة الحق” وذلك لما فيها من التلبيس على الناس بأقاويل كاذبة، وشهادات باطلة، تقلب الحقائق، وتغمط الحقوق، وتجعل الحق باطلا، والباطل حقا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock