وقفه مع شهر رمضان ” الجزء الخامس “

إعداد / محمـــد الدكـــرورى
نكمل الجزء الخامس مع شهر رمضان، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رمضان “لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم” هذا هو الحرمان حقا، أن يدرك العبد مواسم الخيرات وهو بصحة وعافية وأمن وأمان ورغد وهناءة عيش، ثم لا ينال مغفرة الذنوب، ولا ينال العتق من النار، فتأملوا قول النبى الكريم صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام عن أبى هريرة رضي الله عنه قال صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال “آمين، آمين، آمين” ثم قضى خطبته، فقال له الصحابة رضي الله عنهم سمعناك يا رسول الله تقول شيئا لم تكن تقوله قبل ذلك، قال “أتاني جبريل آنفا فقال يا محمد، من أدرك من أمّتك رمضان وخرج فلم يغفر له فأبعده الله فأدخله النار، قل آمين، فقلت آمين، وقال يا محمد، من ذكرت عنده فلم يصلى عليك فأبعده الله فأدخله النار، قل آمين، فقلت آمين صلى الله عليه وسلم، ثم قال يا محمد من أدرك عنده أبواه الكبر ولم يدخلاه الجنة فأبعده الله فأدخله النار، قل آمين فقلت آمين” فهنا جبريل عليه السلام.
يدعو ورسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يؤمّن، ومما دعا به جبريل وأمّن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من أدرك رمضان وخرج ولم يغفر له فأبعده الله فأدخله النار، ما أعظمها من مصيبة وما أشد فداحتها من رزية يدرك العبد موسم الخير والعتق من النار، يدرك العبد موسم مغفرة الذنوب ثم يستمر في غيّه، ويتمادى فى باطله، ويداوم على سفهه وضلاله، ولقد خلقنا الله لعبادته، فقال تعالى فى سورة الذاريات ” وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون” أى بمعنى ليقروا بعبادتي طوعا أو كرها، لآمرهم وأنهاهم، معدين للعبادة، ثم منهم من يتأتى منه ذلك، ومنهم من يأبى، فمن قام بعبادة الله، فقد حقق الغاية من وجوده، ومن قصر فيها، أو نكل عنها، فقد أبطل غاية وجوده، وأصبح بلا وظيفة، وباتت حياته فارغة من القصد، خاوية من المعنى، والله تعالى خلق الزمان والمكان، وهو الذى يفضل منه ما يشاء ويختار، فقال تعالى فى سورة القصص ” وربك يخلق ما يشاء ويختار” أى هو سبحانه المتفرد بالاختيار والتفضيل فى الأزمان والأماكن.
ولذلك فليس من حق العباد أن يفضلوا زمنا على زمن بلا دليل شرعى، والله تعالى جعل لنا مواسم الخيرات لنعبده فيها، وأوقات الطاعات لنشكره على نعمه فيها، فيا أيها الناس إحذروا من التفريط فى هذا الشهر العظيم فأيامه معدودة وساعاته محدودة ولا تكن من أولئك الذين جعلوا رمضان موسم للهو والعصيان، إحذروا من الغفلة والإعراض عن الرحمات والنفحات الإلهية فقال تعالى “ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال ربى لما حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى” فكم تتألم النفوس المؤمنة وتتقطع حسرة على ما تراه من شباب المسلمين الذين اجتمعوا على اللهو وقتل الأوقات فى ليالى رمضان الفاضلة كم من الحرمات لله تنتهك ومعاصى يجاهر بها في ليالى رمضان المباركة، فيا خسارة المفرطين ويا ندامتهم يوم وقوفهم بين يدى رب العالمين عند سؤاله لهم ” ماذا أجبتم المرسلين” فاجتهد أيها الأخ الكريم فى اغتنام أيام العمر ولياليه.
واتقوا الله وتزودوا في هذه الحياة فكم فى المقابر من أناس صاموا معنا رمضان في أعوام ماضية وهم الآن تحت الثرى رهناء الأعمال واحمدوا الله أن أمهلكم لتدركوا هذا الموسم العظيم فاستعدوا له بالتوبة النصوح والنية الصادقة على استغلاله واغتنامه بالأعمال الصالحة ومن هذه الأعمال، الصيام فقال صلى الله عليه وسلم “كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف يقول الله عز وجل إلا الصيام فإنه لى وأنا أجزى به” ومنها القيام فقد قال صلى الله عليه وسلم “من قام إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” فاحرص على صلاة الترويح مع الإمام فقد قال صلى الله عليه وسلم “من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة” وكان السلف يعتمدون على العصي من طول القيام وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر، ومنها الصدقة فقد قال صلى الله عليه وسلم “أفضل الصدقة صدقة فى رمضان” ومن الصدقة إطعام الطعام فقد جاء فى الحديث “أيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة ومن سقى مؤمنا على ظماء سقاه الله من الرحيق المختوم”
ومن الصدقة تفطير الصائمين ” ومن فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء” ومن الأعمال الاجتهاد في قراءة القرآن فأكثروا من قراءته بتدبر وخشوع وقد كان للشافعى رحمه الله في رمضان ستون ختمه، وعمرة فى رمضان تعدل حجة مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأكثروا من الاستغفار والدعاء خاصة عند الإفطار وفى الثلث الأخير من الليل، ومن الأعمال الاعتكاف فى العشر الأواخر من رمضان تحريا لليلة القدر وهي الخلوة الشرعية فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه فما بقى له سوى الله وما يرضيه، ومن الأعمال الدعاء خاصة فى هذه الأيام الحرجة والظروف والأزمات القاسية التى تمر بها الأمة الإسلامية فى أقطار الأرض فعلى المسلم أن يكثر من الدعاء وأن يلح على ربه ويتحين مواطن وأوقات الإجابة وتأمل ذكر الله عز وجل للدعاء في وسط آيات الصوم وهو قوله تعالى ” وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداعى إذا دعان”
فعليكم بالصبر والمصابرة والجد والمثارة فعند الصباح يحمد القوم السرى، وتذكروا أن هذه الدنيا أيام معدودة وأنفاس محدودة ولا يدرى متى الرحيل فاستعد، وتزود، مادام فى العمر فسحة وعش يومك ولا يطول أملك فإن الموت يأتي على غرة، فاعمل ما يجلب لك فى ذلك اليوم المسرة، وتذكر بأن التعب والنصب يزول ويثبت عند الله سبحانه وتعالى الأجر، فإن رمضان أفضل شهور العام، فهو شهر العبادة والطاعة، فكان السلف رحمهم الله يعرفون له قدره، وأحوالهم فيه عجيبة، من تلاوة، وذكر، ودعاء وبذل، وجود وعكوف، والمحروم من حُرم فضل هذا الشهر، رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، وإن من مزايا هذا الشهر الكريم أن صومه من أعمدة الإسلام، وهو السر بين العبد وربه، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزى به، وقد جاءت الأحاديث الصحاح والحسان بفضله كقوله ” الصوم لا عدل له، ثلاث دعوات مستجابات، ومنها دعوة الصائم، وللصائم فرحتان، ويشفع للعبد يوم القيامة يقول ربى منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعنى فيه”
ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، والصوم جنة وحصن حصين من النار، ومن صام يوما في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا، والريان باب الجنة العظيم للصائمين، وصيام رمضان يعدل صيام عشرة أشهر، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة، فكل يوم من رمضان عند غروب الشمس لله في ذلك الوقت عتقاء، فمن الناس من أدرك قيمة الشهر، وعرف قدره، فهو يغتنمه، ويستعد له، ومنهم الساهي اللاهى، وقد قال الله تعالى كما جاء فى سورة الجمعة ” قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة ” وهذا اللهو اليوم إما أن يصفقون في الشهر، فى الأسواق، فصار موسما عظيما للتنزيلات والمبيعات، وهذا يهون لأن كثيرا منه من المباحات، ولكن اللوم على من ضيعه في هواية التسوق، والله عز وجل نهانا أن تلهينا الدنيا عن الآخرة، فقال تعالى كما جاء فى سورة العنكبوت” وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهى الحيوان“