وقفه مع مالك بن نويرة ” الجزء الثانى “

إعداد / محمــــد الدكـــرورى
ونكمل الجزء الثانى مع مالك بن نويرة، وكان الخليفة أبو بكر الصديق، قاد حملات على القبائل التى ارتدت عن الإسلام، وأرسل الصحابى فى حملات عليهم من أجل ارجاعهم إلى الدين الحق، ومن بين هؤلاء كان بنى تميم، الذين توجس بعضهم فى دفع الزكاة، ورفض البعض الآخر، وكان من بين هؤلاء مالك بن نويرة، ويذكر الأديب الكبير عباس العقاد فى كتابه “عبقرية خالد” أنه عندما نزل خالد بالبطاح لم يجد أمامه أحدا يلقاه بزكاة أو يلقاه بقتال، فعسكر حيث نزل وأرسل السرايا فى أثر هذا البطاح، فجاءته بمالك بن نويرة فى نفر من بنى يربوع، فحبسهم ثم أمر بقتلهم، وحدث بعد ذلك أنه تزوج بامرأة مالك ليلى أم تميم، وكانت من أشهر نساء العرب بالجمال، وخصوصا جمال العينين والساقين، ويقال إنه لم ير أجمل من عينيها ولا ساقيها، وتضطرب الروايات هنا أبعد اضطراب وأصعبه أن تهتدى منه إلى مخرج متفق عليه، فمن قائل إن السرايا وجدت بنى يربوع يصلون وسمعت الأذان، ومن قائل لم نرى صلاة ولم نسمع بأذان.
ومن قائل إن الأسرى قتلوا لأن الليلة كانت باردة ونادى مناد من قبل خالد أن دافئوا أسراكم، ففهم الحراس أنه يريد القتل لأنهم من بنى كنانة والمدفأة بلهجتهم كناية عنه، ومن قائل إن مالكا قتل بعد محادثة حامية جرت بينه وبين خالد، ثم تضطرب الروايات فى نقل حديثهما، فلا يدرى له نص صحيح، فقيل إن مالكا صرح بأنه لا يعطى الزكاة وإنما يقيم الصلاة، فقال خالد بن الوليد أما علمت أن الصلاة والزكاة معا لا تقبل واحدة دون الأخرى؟ فقال مالك قد كان صاحبك يقول ذلك، وهو يقصد النبى محمد صلى الله عليه وسلم، فاتخذ خالد بن الوليد قوله دليلا على تبرؤه من النبى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال له أو ما تراه لك صاحبا، ثم حمى الجدل بينهما حتى أمر بقتله، ونسجت الخرافة بعد ذلك نسيجها الذى لا يتماسك لوهيه، فزعموا أن خالدا أمر برأسه فجعل مع حجرين وطبخ على الثلاثة قدرا فأكل منه، وأن شعر مالك جعلت النار تعمل فيه إلى أن نضج اللحم ولم يفرغ الشعر وهى خرافة تروى لتدلنا على شيء واحد وهو وجود المحنقين الراغبين.
فى التشهير بخالد وتبشيع أعماله وإيغار الصدور عليه، وقيل إن مالكا لمح فى عينى خالد الإعجاب بامرأته فصاح به هذه التى قتلتنى، فقال له خالد بن الوليد بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام، ويذهب بعضهم إلى أكثر من هذا، فيزعمون أن هوى خالد لها سابق لحرب الردة، وفى ذلك يقول أبو نمير السعدى أنه قضى خالد بغيا عليه بعرسه وكان له فيها هوى قبل ذلك، وقيل إن خالدا توعد مالكا بالقتل، فقال له مالك أو بذلك أمرك صاحبك؟ قال خالد وهذه بعد تلك؟ ثم تكلم أبو قتادة الأنصارى وعبد الله بن عمر فى أمره فكره خالد كلامهما، وعاد مالك يقول له يا خالد ابعثنا إلى أبى بكر فيكون هو الذى يحكم فينا، فقال خالد لا أقالنى الله إن أقلتك، وتقدم إلى ضرار بن الأزور أن يضرب عنقه ويزيدون على ذلك، أن خالدا دعا أبا قتادة الأنصارى وعبد الله بن عمر إلى حضور عقد الزواج بليلى بعد مقتل زوجها فأبيا وأشارا عليه أن يكتب إلى أبى بكر، فلم يستمع إليهمان وغضب أبو قتادة، فأقسم لا يجمعه بعد اليوم وخالدا لواء واحد.
وقفل إلى المدينة غير مستأذن من قائده، فلقى الخليفة ولقى عمر بن الخطاب، فكانت غضبة عمر أشد وأعنف، وطلب إلى الخليفة أن يعزله وأن يقيده قائلا إن سيفه فيه رهق، فلم يجبه الخليفة وقال له يا عمر، تأول فأخطأ، ارفع لسانك عن خالد، فإنى لا أشيم سيفا سله الله على الكافرين، فقد جاء في طبقات فحول الشعراء لابن سلام قوله والمجمع عليه أن خالد بن الوليد حاوره ورادّه، وأن مالك سمح بالصلاة والتوى بالزكاة فهناك من اتهم خالد بن الوليد بأنه تزوج أم تميم فور وقوعها في يده لعدم صبره على جمالها, ولهواه السابق فيها، وبذلك يكون زواجه منها حاشا لله سفاحا، فهذا القول مستحدث لا يعتد به، إذ خلت المصادر القديمة من الإشارة إليه، بل هي على خلافه فى نصوصها الصريحة، ويذكر الماوردى أن الذى جعل خالد يقوم على قتل مالك هو منعه للصدقة التي استحل بها دمه، وبذلك فسد عقد المناكحة بينه وبين أم تميم، وحكم نساء المرتدين إذا لحقن بدار الحرب أن يسبين ولا يقتلن، كما يشير إلى ذلك الإمام السرخسى.
فلما صارت أم تميم في السبي اصطفاها خالد لنفسه، فلما حلت بنى بها، فإن الصحابي الجليل خالد بن الوليد سيف الله المسلول على المشركين، وقائد المجاهدين، القرشي المخزومي المكي، أسلم سنة سبع للهجرة بعد فتح خيبر وقيل قبلها، وتوفي سنة واحد وعشرين من الهجرة وله من الفضائل الشيء الكثير، ومن أهم ما جاء في فضائله أنه عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال صلى الله عليه وسلم ” أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحه فأصيب” وعيناه تزرفان” حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم ” رواه البخارى، وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قَال” ما عدل بى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحدا من أصحابه منذ أسلمنا” رواه الحاكم، وقد تعرض هذا الصحابي الجليل لحملات من الطعن والتشويه قام عليها بعض المستشرقين الذين يتلقفون كل رواية من غير بحث ولا تدقيق.
وقام عليها طوائف من الشيعة حقدا وغيظا من هذا الصحابى الذي أبلى بلاء حسنا في قتال الكفار، وحماية الدولة المسلمة في عهود الخلافة الراشدة، ومن بعض تلك الطعون القصة المشهورة في قتل مالك بن نويرة وتزوج خالد من امرأته ليلي بنت سنان، ومالك بن نويرة يكنى أبا حنظلة، كان شاعرا فارسا من فرسان بنى يربوع ، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يستعمله على صدقات قومه، وقد اتفقت الروايات التاريخية على قدر مشترك، فيه أن مالك بن نويرة قتله بعض جند خالد بن الوليد، وأن خالدا تزوج بعد ذلك زوجته ليلى بنت سنان، وأما سبب قتل مالك بن نويرة وذكر بعض ملابسات ذلك الحادث فقد تفاوتت الروايات في بيانه، إلا أن معظم قدامى المؤرخين الذين سجلوا تلك الحادثة، مثل الواقدى وابن إسحاق ووثيمة وسيف بن عمر وابن سعد وخليفة بن خياط وغيرهم، ذكروا امتناع مالك بن نويرة من أداء الزكاة وحبسه إبل الصدقة، ومنعه قومه من أدائها ، مما حمل خالد بن الوليد،على قتله، من غير التفات إلى ما يظهره من إسلام وصلاة.
وقال ابن سلام في “طبقات فحول الشعراء” والمجمع عليه أن خالدا حاوره ورادّه، وأن مالكا سمح بالصلاة والتوى بالزكاة وتتحدث بعض الروايات عن علاقة بين مالك بن نويرة وسجاح التي ادعت النبوة، وتشير أيضا إلى سوء خطابٍ صدر من مالك بن نويرة، ويفهم منه الردة عن دين الإسلام، كما ذكر ذلك ابن كثير في “البداية والنهاية” إذن فلماذا أنكر بعض الصحابة على خالد بن الوليد قتل مالك بن نويرة كما فعل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبو قتادة الأنصارى ؟ ويمكن تلمس سبب ذلك من بعض الروايات، حيث يبدو أن مالك بن نويرة كان غامضا في بداية موقفه من الزكاة ، فلم يصرح بإنكاره وجوبها، كما لم يقم بأدائها، فاشتبه أمره على هؤلاء الصحابة، إلا أن خالد بن الوليد أخذه بالتهمة فقتله، ولما كان مالك بن نويرة يظهر الإسلام والصلاة كان الواجب على خالد أن يتحرى ويتأنى في أمره، وينظر في حقيقة ما يؤول إليه رأى مالك بن نويرة في الزكاة، فأنكر عليه من أنكر من الصحابة رضوان الله عليهم.