مقالات

مها الجمل تكتب بين الهدوء الحَذِر وهشاشة الهُدَن.. يتشكل مُفترق الطرق

مها الجمل تكتب بين الهدوء الحَذِر وهشاشة الهُدَن.. يتشكل مُفترق الطرق

               بقلم : الأديبة مها الجمل

ماذا بعد.. ماذا بعد قهر النفس وتشريد الروح..؟! ماذا بعد الدمار الذي لحق بالقلوب قبل أن يلحق بالمباني والبنية التحتية للسودان ويقضي عليها وعلى مواردها ولايزال ينخر في جسدها ..!؟
تستمر المعارك في العاصمة السودانية الخرطوم والولايات الأخرى وتدخل شهرها الثاني، ويستمر تشريد أكثر من مليون مواطن والوضع الإنساني والمعاناة تزداد سوءًا في دولة لم يعد لها ملامح.
أطفالٌ عالقون في مُخيمات اللجوء يعانون أمراضًا نفسية، ولاجئاتٌ بدون معيل هربن من حروب اشتعلت وفرارًا من المجهول، الجميع استقر في مخيمات على حدود تشاد السودانية مخيمات باتت تتشكل لها أسقف لعلها تشد بيت لاجئين بلا عودة، يعانون ويفتقرون لأساسيات الحياة، موسم الأمطار سيأتي وسيظلون عالقون ليس لهم ذنب في هذه الحياة سوى أنهم صاروا غرضًا تَعَاوَره ويتداوله الرُماةُ، يعيشون في عالم يتحكم فيه أناس لايعرفون معنى الانسانية ولا يمكن أن يُصنفوا ضمن قائمة البشر وضمير الإنسانية، ولوعرفوها ما تخلوا عن أي سبيل كان للمضي قدمًا لنصرة شعبهم ورحمته، لكن العناد وحب السلطة ومتعة التسلط كفيلة بصنع بهيمية الإنسان.
تبدو المفارقة كبيرة ومستحيل تصديقها السلطات التي دورها تحقيق الأمن والأمان لشعبها تمارس الإهانة والخراب والتشريد والذل والفقر.
متعة خبيثة لممارسة السلطة والتسلُّط على مقهورين وصورة صارخة لنفوذ السلطة على النفوس الإنسانية، فتحوُّل الكائن الإنسانى إلى بهيمة بشرية ووحش أعمى يعربد استمتاعا بالسلطة والتسلط وإراقة الدماء، لكنه فى الواقع الأعمق يُريق ما هو أغلى من الدماء…
شبابٌ وفِتية صاروا كهولًا وكهولٌ شابت قواها وبلغت حرسًا من دهرها، وبالرغم من ضعفهم ورغمًا عن قلة الحيلة قبل قلة الزاد ورغمًا عن الظروف ومخاطر البقاء يرفضون مغادرة منازلهم ووطنهم والتخلي عنه ويتمسكون بتلابيب آخر لحظات حياتهم في ديارهم، يعتبرونها مسألة كرامة إما الموت في الوطن أو الموت أيضًا من أجل الوطن، يفضلون مخاطر البقاء في المنازل والعيش في دولة لم يعد لها معالم، يحيطهم الهلاك من كل مكان عن مخاطر رحلة لا تقل خطورة من بقائهم في منازلهم، رحلة محفوفة بغشاوة وضباب رؤية المستقبل المجهول، فمن اختار البقاء في هذه المدن المنكوبة بات يعاني من نقص الغذاء والدواء، والبعض ساعدتهم همتهم واستسلموا لتشريد أرواحهم بحثًا عن الأمن والأمان وفرارًا ونجاة بحياتهم من أناس انعدمت انسانيتهم امتلكوا زمام أمورهم قسرًا، بات النزوح والفرار للغالبية من مجهول ظالم إلى مجهول آخر هو الحل .. هو خيار وليس اختيار.
بين هدنةٍ وهدنة، مفترق طرق وهدوء حَذر، معارك محتدمة واشتباكات واختراقات وطائرات تقصف الشعب ..
هشاشة هُدن متى بدأت انتهت وصارت في الرمق الأخير، محاولات فاشلة لمفاوضات عاجزة وخيارات مُرة وصعبة إن جاز بعضها أُحجم وتعرقل البعض الآخر.
ماذا بعد السلب والنهب والسطو على البيوت والسرقات باستخدام السلاح.. محلات مُغلقة ومخابز متوقفة تعاني من نقص الخبز وعدم توافر حصص الدقيق، مصانع تعرضت للسلب والنهب وأصبح من الصعب عليها صرف حصتها، ارتفاع أسعار المواد التموينية، دُمرت التجارة وأُغلقت الأسواق، غياب تام للدولة، حرب شوارع في مقابل قصف بالطائرات، فريقان مسلحان، طرفان ارتكبا جرائم في حق شعبهما وانتهكا القانون الدولي الإنساني، طرفان يُدركان تمامًا ما يحدث من خسائر لبلدهم وشعبهم ومع ذلك لم يحترما حقوق الإنسان…من المتضرر؟؟
هُدن تشوبها الكثير من الخروقات، هدنة تلو الأخرى وفي النهاية ما حققت شيء سوى السماح “لمن يستطع” ببعض الوقت للخروج للأسواق “إن وجدت” لشراء ما يسد الرمق الذي فشلت أن تحياه تلك الهُدَن، وليتهم استطاعوا بامكانياتهم الزهيدة أن يواجهوا جشع الأسعار وأصحابها الذين ينتهزون الفرص ليصيروا أجسادًا خاوية استؤصلت قلوبهم ومشاعرهم، محاولات وخيارات مُرة وصعبة إن جاز بعضها أُحجم وتعرقل البعض الآخر.
ماذا بعد انهيار القطاع الصحي، نقص الكوادر الطبية وكذلك المستلزمات والمساعدات الطبية وصعوبة إيصالها داخل الخرطوم، استهداف وإخلاء المستشفيات قسرًا، أربعةٌ وثلاثون مستشفى خارج الخدمة وما تبقى من المؤكد أنه لن يصبر كثيرًا، أيضًا الاستيلاء على المختبر الطبي في العاصمة الخرطوم وأصبح التلاعب بالعينات التي تحمل أمراض خطيرة قد تصيب البشر بأوبئة مُهلكة أمر سهل ومتاح .. ماذا بعد..!؟
ماذا بعد إجلاء كل دولة لرعاياها من السودان واستمرار ارتفاع أعداد الوفيات بين المدنيين السودانيين وتزايد عبور النازحين من السودان للدول المجاورة، أكثر من ثمانية مليون لاجئ إلى مصر الكثير منهم يفترشون الأراضي أمام مفوضية اللاجئين يقدمون طلباتهم للحصول على بطاقة حق اللجوء إلى مصر، والكثير يطلب إعادة التوطين ومعظمهم فقد الوثائق المطلوبة لإثبات هويتهم أثناء الخروج من السودان…ومصر لم ولن تتوانى في بذل الجهد وتقديم العون لأشقائنا السودانيين…
ومازال القتل المسلح ينتقل من الخرطوم لأم درمان ودارفور وتليه الولايات الأخرى، ولا تزال النزاعات والاشتباكات تولّد سلسلة من الانتهاكات والتجاوزات لحقوق الإنسان المرتكبة بحق الشعب تنحر في أجزاء جسد الوطن، ومن المؤكد أن ما يحدث في قلب السودان سيطال الكثير من دول الجوار.
ماذا بعد انهيار قطاع التعليم وخسارة بقيمة ملايين الجنيهات، سبعة جامعات حكومية وعلى رأسها جامعة المشرق بالخرطوم لم تَسْلم من أعمال القذف والنهب وتوقفها عن استقبال الطلاب وتكبدها الكثير من الخسائر ما وضع مستقبل العام الدراسي على المحك ومصير القادم مجهول.
ماذا بعد فشل الوساطات الأمريكية في احتواء الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع..؟ وآخرها محادثات جدة في السادس من مايو والتي نتمنى التوصل فيها إلى اتفاق لتنفيذ الهدنة والبحث عن خروج آمن للشعب والسماح لممرات آمنة بشأن دخول المساعدات الإنسانية بعد أن حوصر الملايين من سكان السودان في منازلهم بسبب القتال فيما نزح عشرات الآلاف الآخرين في شتى أرجاء السودان.
هذه المحادثات في جدة والذي يمثَّل فيها طرفي الصراع وفدان لايملكان أي صلاحيات سياسية، هذه الوساطات والمبادرات التي غابت في الأيام الأولى من الصراع والاشتباكات وأرادت أن تتسيد الموقف الآن بعد تشريد أكثر من مليون شخص من شعب السودان، ألا يجب أن يمتثل طرفا النزاع أمام القضاء للمساءلة القانونية ومحاكمتهما عن التسبب في قتل وتشريد الشعب السوداني؟
ماذا لو تم خرق تلك الهدنة الأخيرة كمثيلاتها ولم يلتزم الطرفان ببنودها وما أرسته الهدنة من التزامات ؟
أليس من الأفضل توقيع اتفاق بدلًا من تلك الهُدَن الهشّة وفرض عقوبات رادعة حتى يلتزم الطرفان بوقف إطلاق النار…أليس من الأفضل أن ترتكز الأطراف المتصارعة على دعم الحوار لإخلاء جميع المناطق والمقرات والمستشفيات والمؤسسات التعليمية والسماح للمواطن السوداني أن يعيش آمنًا في بلاده بدلًا من تشريده في دول الجوار ..!؟
ألا يجب على الحكومات الوفاء بالالتزامات الدولية بموجب القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان لحماية المدنيين من الاعتداءات وضمان المساءلة عن الانتهاكات..؟
وفي هذا العام ومرور ٧٥ عامًا لاعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي حدد معاييرها للجميع في كل أنحاء العالم…أين هي حقوق الإنسان..!؟
مايحدث في السودان مؤسف ومخزي للغاية، ربما كان السودان بلداً مثقلاً بالحروب، ففي تاريخ هذا البلد لا تكاد تنتهي حرب إلا وتشتعل أخرى،
ألا يستحق هذا الشعب أن يسترد كرامته..؟، ألا يستحق كل إنسان يعيش على وجه الأرض أن يحيا حياة كريمة..؟ انها مخططات تتكرر كل فترة زمنية محددة والهدف منها واحد وثابت، تفاصيل بين السطور وأحداث كُثر تخالطها معاني تتراءى فيها خفايا من الحقيقة يبصرها من تتكشف له تلك الخفايا ويعيها من أراد أن يعي ويقرأ ما بين السطور.

اظهر المزيد

شبكه أخبار مصر

فاطمة الشوا رئيس مجلس إدارة جريدة شبكة أخبار مصر وصاحبة الإمتياز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock