دين ودنيا

الدكروري يكتب عن الفلسفات العقلية

بقلم / محمـــد الدكـــروري

لقد نشأت على مدى العصور فلسفات كثيرة تناولت شأن العقل، فمنها من قام بإعطائه السلطة المطلقة، ومنها ما عطل العقل عن فهم الحياة، وجاء الإسلام الذي أعطى العقل أهمية واضحة، فهو الأساس في فهم النقل، ولا تعارض بينه وبين العقل، فلولا العقل لما فهمت النصوص، ولما استنبطت الأحكام، ولنفهم معنى العقل لغة نرجع إلى أهل اللغة حتى نفهم ما المقصود بالعقل أصلا؟ فكم من متكلم بالعقل ولا يستطيع أن يخبرنا ما هو العقل لغة وماهية، فالعقل هو العلم بصفات الأشياء، من حسنها وقبحها وكمالها ونقصها أو العلم بخير الخيرين وشر الشرين أو منطلق لأمور أو لقوة بها يكون التمييز بين القبح والحسن ولمعان مجتمعه فى الذهن، يكون بمفدمات يتستتب بها الأغراض والمصالح ولهيئة محموده للإنسان فى حركاته وكلامه، ولكن نسأل من أين نشأت نظريات الفلاسفة والمتكلمين في ماهية العقل، حتى أثير الجدل بين العقل وبين النقل؟

وهي فكرة قديمة تكلم بها الفلاسفة الإغريق واليونان، والفلسفات الشرقية القديمة، ووجدت جذورها بداية في اللاهوت والفكر الديني عموما، قبل تكون النظريات العلمية، وركزت على العلاقة بين العقل والروح أو الجوهر الإلهي المفترض للذات الإنسانية، فقد ذهب أرسطو إلى أن هناك عقلا بالفعل، وعقلا بالقوة، فأحدهما فاعل، والآخر منفعل، ولا يستغني أحدهما عن الآخر، وقد نشأ في العصر الذهبي عند اليونان نزاع بين الفلسفة والدين، وعرفت مجموعة من الفلاسفة عرفوا بالسفسطائيين، فهم الذين اخترعوا لأوربا النحو والمنطق، وطبقوا التحليل على كل شيء، وأبوا أن يعظموا التقاليد المتواترة التي لا تؤيدها شواهد الحس أو منطق العقل، وكان لهم شأن كبير في الحركة العقلية التي حطمت آخر الأمر دين اليونان القديم، ولقد اتهمهم سقراط بقوله لقد دمر السفسطائيون إيمان الشباب بآلهتهم، وحطموا القانون الخلقي، الذي كان يعززه خوفهم من عقاب الآلهة.

لو قاموا بارتكاب ما يخالف رضاها، وأصبح من الواضح أنه لا مانع من أن يسير الإنسان على هواه، ويفعل ما يطيب له، فماذا عن سفسطائيي هذا العصر؟ هل يريدون أن يقوموا بالدور الذي حض عليه سفسطائيو الإغريق بنسف القيم الدينية والأخلاقية بدعوى حرية العقل وتحرره، مع أنهم قيدوا عقولهم بهذه الفلسفات، وتركوا ما هو من عند الله؟ حيث قال الله عز وجل فى سورة الملك ” ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير” أما شأن العقل عند من فهم وظيفته، وما أراد الله من أنه آلة لفهم الشريعة وأحكامها، فالأمر مختلف، فلقد أعلى الله شأن العقل ودوره، ويقول أبو حاتم البستي وهو المشهور بابن حبان العقل نوعان، مطبوع ومسموع، فالمطبوع منهما كالأرض، والمسموع كالبذر والماء، ولا سبيل للعقل المطبوع أن يخلص له عمل محصول، دون أن يرد عليه العقل المسموع، فينبهه من رقدته، ويطلقه من مكامنه.

يستخرج البذر والماء ما في قعور الأرض من كثرة الربع، فهذا هو التكامل بين ما هو فطري، وما هو مكتسب بالعلم المجرد من الهوى، هو أكمل العقل وأتمه، فهذا الذي يوفقه الله للفهم الصحيح مع وجود الإيمان الفطري الذي جبلنا عليه، وبذلك قال ابن الجوزي رحمه الله أيضا “فإن أعظم النعم على الإنسان العقل لأنه الآلة في معرفة الإله سبحانه والسبب الذي يتوصل به إلى تصديق الرسل، فمثال الشرع الشمس، ومثال العقل العين، فإذا فتحت وكانت سليمة، رأت الشمس، ولما ثبت عند العقل أقوال الأنبياء الصادقة، بدلائل المعجزات الخارقة، سلم إليهم، واعتمد فيما يخفى عنه عليهم، ولما أنعم الله على هذا العالم الإنسي بالعقل، افتتحه الله بنبوة أبيهم آدم عليه السلام فكان يعلمهم عن وحي الله تعالى فكانوا على الصواب، إلى أن انفرد قابيل بهواه، فقتل أخاه، ثم تشعبت الأهواء بالناس فشردتهم في بيداء الضلال، حتى عبدوا الأصنام.

واختلفوا في العقائد والأفعال، اختلافا خالفوا فيه الرسل والعقول، اتباعا لأهوائهم، وميلا إلى عاداتهم، وتقليدا لكبرائهم، فصدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه، إلا فريقا من المؤمنين، فالمشكلة إذن ليست في العقل كفطرة سوية، وإنما كهوى متبع، فهذا هو السبب في الجدل المفتعل، وهو السير وراء سراب العقول التي خالطها الهوى، ويقول العلامة الشوكاني رحمه الله لقد كان السلف يقولون إن العقل عقلان، غريزي، ومكتسب فالغريزي هو ما نسميه بالمقدرات العقلية، من فهم، وإدراك، وفقه، واتساق في الكلام، وحسن تصرف، وهذا العقل الغريزي هذا هو مناط التكليف، فمن لا عقل له، لا يكلف، ومن فقد بعض مقدراته العقلية، فإنما يكلف بحسب ما بقي له منها، فلولا هذا العقل إذن، لما كان هناك تكليف لصاحبه، وهو الذي تستوعب النصوص والنقول به، فنؤمن بها، فلا يؤول صريحها، ولا يرد صحيحها، كما يفعل أهل الأهواء بحجج تعارضها مع عقولهم، حيث قال الله تعالى فى سورة الجن ” وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock