مقالات

قرأت لك اسألوا أهل الذكر

 

د . رمضان الحضرى يكتب

متابعة عادل شلبى

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )

ضاعت الشخصية العربية حينما ضيعت فهمها للقرآن المجيد ،

وجاء خطباء الفتنة فأفسدوا على الناس دينهم وعقلهم ثم تبعهم

مثقفو الفتنة فأضاعوا للناس ما تبقى من ثقافة وعلوم؛فصارت

الشخصية العربية أكبر شخصية مستهلكة في العالم _ بدون انتاج

_ مما جعل أحياءها كموتاها والعكس غير صحيح ، فكثير من

الموتى يؤثرون في حياتنا .

وقد جاءت الآية الكريمة في سورة النحل ومن كثرة ترديدها في

إذاعة القرآن الكريم ، وإقامة برنامج يعنون بكلمات من الآية

ظن الخلق أن السؤال أمر محمود في كل أحواله ، وعلينا أن

نكثر منه ، على الرغم أن مادة سـءل في لغتنا العربية لاتعني

طلب المعرفة أو المعلومة فقط ، بل تعني طلب المال ، وتعني

الدعاء ، وتعني المحاسبة ، وتعني حديث النفس ، وتعني الخصام

وتعني الاسترحام والاسترضاء والتوبيخ والتبكيت والاستهزاء

والاستنكار والحصر والقصر وغيرها ، ولأن عيوب السؤال أكثر

من فائدته فقد نهى الله عنه ( لا تسألوا عن أشياء ) ، ونهى

الرسول عنه في حديث أورده الإمام مسلم عن أبي هريرة :

( إنَّ الله يرضى لكم ثلاثًا ويكره لهم ثلاثًا: فيرضى لكم أن تعبدوه

ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبلِ الله تعالى جميعًا، ويكره

لكم قِيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال ) .

وحينما نستمع لقول الله ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون )

فعلينا أن نعلم أن للآية جذوراً في أسباب النزول ، هذا ما أفهمه

من الآية الكريمة ، وهل أهل الذكر ملزمون بالإجابة ؟ أو ستكون

إجابتهم كافية وشافية ، وهل لكل سؤال في الكون إجابة ؟ ولو

سألنا طبيبا كيف تصيب الأنفلونزا الفيروسية أو البكتيرية الجسم ؟

أو كيف تعمل المعدة أو الكبد أو الغدد ؟ فهل سيجيب ويمكنه تلافي

الأمراض التي تصيبنا ، وهل لو سألت لغويا لماذا نسمي الماء ماء

في لغتنا العربية ونسميه ( water ) في اللغة الإنجليزية ؟ وهل

ماء الإنجليز لا يصلح لشرب العرب أو العكس ، يبدأ الجدال

بكثرة السؤال ، وطالب العلم يكفيه دليل بدون سؤال ، وطالب

الجدال لايكفيه ألف دليل وألف إجابة وألف سؤال .

ليست هذه المقدمة مناسبة لكي أتناول نصوصا عبقرية لشعراء

عظماء ، لكنها تناسب مقتضى الحال ، مما وصلنا إليه من خبال

في تكرار كلمة سؤال ويظن الخلق أنها محمدة ، فما أعجب لعاقل

يزين صوته بنهيق ! .

ومنذ مايزيد عن أسبوع شدني نص شعري للشاعر الاستثناء /

علي عمران يقول فيه :

تَعَرَّيْ كالمصَابيحِ وبُوحي بالهــــــوَى بُوحي

وكُوني رقصَةَ القِنديلِ في خمَّارةِ الــــــرُّوحِ

أزِيحي الشَّالَ، وانتَفِضِي وبينَ جوَانِحِي نُوحِي

أُريدُ الغابةَ البيضَاءَ ينْزِعُ عُشْــــــــبَها رِيحي

أُريدُكِ معبدًا يرضَى بإلحادِي، وتسْبيــــحي

كرِهْتُ الغُرفَةَ الخَجْلَى وَضَوْءًا نصفَ مفتوحِ

كرِهْتُ عِبَارَةً بالبابِ تُعلِنُ: “غيرُ مسْمُـــــــوحِ”

كرِهْتُ الحُبَّ بالإيحَاءِ في صمْتٍ، وتلمـــــيحِ

أُريدُكِ تحتَ صهْدِ الشَّمسِ بينَ عواصفِ الرِّيحِ

تعرَّيْ، واغْنُجي، مِيلي تثَنَّيْ، وَاصرُخي، نُوحي

ومُدِّي زهرةَ الشَّفتَينِ وامْتثِلِي لِتلْقــــــــــــــيحِي

وعنْدَ تلامُسِ القبَسَيْنِ صِيحي نشْوَةً صِـــــيحي

فعِشْقي إنْ خَبَا يَفْنَى ويحيَا عنْدَ تصـــــريحي

فالشاعر ليس مريضا بصوت الملفوظ ، أو حركات الأعراب

أو تنويعات البناء كما مرض بها كثر ممن ظنوا أنهم درسوا

لغتنا العربية فأضروها _ أضرهم الله _ وقتلوها _ قتلهم الله

_ وقتلهم الله هنا بمعنى لعنهم ، لأنني متأكد أنهم لن يفهموا

لغة يتشدقون بها كثيرا ، ولقد سمعت لافظا يظن أنه يقول

شعرا فقال : فالكلام كلام ، والإمام إمام ، والسلام سلام ،

فحاولت أن أذكره أن البرشام برشام ، ولكن كان صوته أعلى .

الشاعر علي عمران من طراز شعري استثناء هو يمسك بموسيقا

تصويرية لينقل حالة فكرية ومزاجية ألمت به أو سمع بها أو أراد

أن يقدم للجمهور فكرة عنها ، فجاءت القصيدة لوحة من مجزوء

الوافر على قطيفة الملوك فقال ما لايمكن حدوثه ، وصور مالا

يمكن فعله ، ونطق بالمسكوت ، وسكت عند توهج الحدث للعلم

به ، فقدم نموذجا للقصيدة الشعرية العربية في أبهى حلتها وأنضر

خضرتها ، فبدأ بحادثة لا يمكن أن تحدث في الواقع ، ولكن يمكن

أن تحدث في الخيال ، وهذا مانسميه نتيجة لما سبق ، تعري

كالمصابيح ، فالمصابيح لا تتعرى ، ولكن هو يطلب من محبوبته

أن تلقي أستارها ، وسوف يراها كالمصباح ، فالكلمات تعري

كالمصابيح ، جملة واحدة فيها طلب وترجي واستعطاف وأمر

ونتيجة ، هل هناك شاعر يقدر أن يجمع لنا كل هذه الدلالات

في كلمتين فقط ، من فعل أمر وجار ومجرور ، لايمكن إلا

للشاعر الاستثناء / علي عمران .

وتابعت شاعرة المستقبل / داليا السبع ، وهي شاعرة جديدة

على المشهد الشعري السكندري والمصري ، وقد قدمت تحفة

شعرية بعنوان ( ينابيع الهوى ) تقول فيها :

فاضت ينابيع الهوى للـــــراعي

فإهتز عرش القلب في أضلاعي

ما عدت أدرك أنني في لـــــحظة

قد صرت أعلن للورى أوجاعي

فالدمع يكتم في جفوني خـــوفه

والنبض يحـــكي قصة لخداعي

يا حب مالك قد نسيت عهودنا

ومشيت خلف الوهم والأطماع

شلال وجدي صار يغمرني أنا

ويفور ما بيني وبين صراعي

يالوعتي حين اللقاء يضمـــنا

يا حسرتي لما يحـــين وداعي

قد كنت ألعب في شواطئ حبنا

فلمَ حبيبي رميتني بالـــــقاع

والشاعرة ترسم بمتفاعلن وروي العين المكسورة ، حيث يخرج

حرف العين من وسط الفم ومن منطقة لسان المزمار وهو من

الحروف المجهورة ، ولكنه مصاب بالضعف بسبب الانفتاح

والاستفال ، فالقارئ يشعر بصوت الألم المركز وخاصة حينما

تكون العين مصابة بكسرة تحتها ، والصورة التشكيلية للقصيدة

تتقدم نوعا من الصراع الخفي ، والمتناقضات بين زمنين متقاربين

ومتناقضات بين مكانين ملتصقين ، وكأن الشاعرة تريد أن تخبر

القارئ أن حالة التناقض هذه حالة خاصة بها وليست بالقارئ

مما يجعل العذاب كبيرا .

ويأتي نص الشاعرة الراقية والكاتبة المسرحية والمترجمة /

إلهام عفيفي ليوثق للشعر في عصره ، وليظهر المقارنة في جلاء

بين رؤية الشاعرة الذاتية ورؤيتها للعالم من حولها ، وكأن النص

جاء للتطبيق على التكوينية الأمريكية ، فالشاعرة ترفع ذاتها على

ذات العالم ، وترى في حبيبها مواصفات أهم من جميع

المواصفات العلمية العالمية ، وكأنها تطبق معايير الجودة

الإنسانية إذا صح هذاالتعبير مني على هذا النص ، فجاء النص

تشكيلا فنيا جديدا ، ليصبح فكرا غير مسبوق ولا مطروق ،

فالمقارنات لاتصلح في مثل هذه الحالات لكن الشاعرة أقنعتنا

أن المقارنات هنا جد مفيدة ، تقول إلهام عفيفي في نص لها

بعنوان ( حكاية ) :

أحببتكِ في عصــــــر العلم فوجدتكِ أسمى نظـــــرية

في خصركِ .. خارطة الكون في كفكِ طُهر البشـــرية

في جيدكِ أنهار تتـــــــرى في خدكِ تضحك أغـــــنية

يا أحلى حقائق دولتــــــنا تمنحنا سر القدســــــــــية

يا سر الأسرار بقـــــــلبي عيناكِ حكايا وهمـــــــية

بحروفكِ يعزف قانــــوني أسطورة عشق أبــــــــدية

طاغية أنت على قلــــــبي وأنا لا أطلب حــــــــرية

كلما غاب سيد شعراء العرب / عبدالعزيز جويدة عن المشهد

عاد بقوة أكبر وبفكر أكثر تأثيرا ، وقد لمحت هذا في قصيدته

الأخيرة المعنونة بـ ( أحبتنا ) والتي يقول فيها :

أحِبَّتُنا لهمْ عهدٌ مُصانٌ أينَما كُنا

وميثاقٌ مُصانٌ أينما كانوا

وفي الحبِّ لنا نَسَبٌ وأحبابٌ لهم حُللٌ

إذا لبِسُوا الحُلى ازدانُوا

وحبلُ الودِّ مُتصلٌ بقلبَينا

فلا هُنَّا عليهم في الهوى يومًا ولا هانُوا

تَمهَّلْ قبلَ أن تُلقي بهِمْ تُهمًا

فوللهِ ـ معاذَ اللهِ ـ ما خانُوا

لهم في حُبِّهمْ شِيَمٌ وأخلاقٌ تَحلَّوْها

وعهدَ الحبِّ قد صانوا

لهمْ نورٌ لأن النورَ يَتبعُهمْ

نُجومٌ في السما طَلَعَتْ إذا أخفيْتَهم بانُوا

وكمْ في الحبِّ كُفارٌ

هداهمْ ربُّهم يومًا إلى الحبِّ

وغالَبَ كُفرَهم بالحبِّ إيمانُ

هنا لانتْ قلوبُهمُ وطهَّرَهمْ بدمعٍ

كلما احترقُوا بنيرانِ الجوَى لانُوا

شريعةُ ربِّنا في الكونِ قد حُسمتْ

قلوبُ الناسِ ربُّكمُ يُقلِّبُها

وللعشقِ كما للدينِ أركانُ .

والنص الجويدي هنا يقوم على موسيقا مفاعلتن ، وحرف الروي

النون المضمومة ، ولو استطرد بي الأمر لشرح النون في

نطقها ورسمها وأثرها وخاصة في هذا النص فسوف نعلم

أن اختيار النون لتكون حرف روي فهذا يعني أن الشاعر يريد

لمن تناولهم في نص ( الأحباب ) النجاة ، فحرف النون ( ن )

يكون على هذا الرسم في لغتنا العربية وهو رسم أقرب للسفينة

التي تسبح فوق المياه والنقطة تدل على بذرة الحياة ، ولذا فلا

عجب حينما نعلم أن الله أطلق لقب ( ذا النون ) على يونس عليه

السلام ، حيث كان الحوت الذي التقمه سفينة لنجاته .

وهو حرف يحمل جزء الغنة والجزء الآخر يحمله الميم ، ويخرج

من طرف اللسان وما يحيط به من اللثة ، ورغم أن صوت النون

يكون شديدا إلا أن غنته من الخيشوم تجعله رخوا .

أما عن التشكيل والتجديد في النص فهذان أمران لا محالة سيأتيان

إذا أراد الله جل في علاه في اللقاء القادم .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock