مقالات

البحث العلمي في فهم العقل والذات

البحث العلمي في فهم العقل والذات

كتبت دكتورة/ رنا فتيت
دكتوراه في علم المخ والأعصاب
جامعة أدنبرة- اسكتلندا

في الماضي لم نكن ندرك كيف يعمل المخ ولانعلم بالتحديد ماذا يحدث داخله ويؤثر علينا وعلى شخصياتنا وسلوكاتنا، الآن تطور العلم وازداد البحث العلمي تقدمًا، وساعدنا على فهم ومعرفة أشياء كثيرة عن حياتنا وعقولنا .
بدايةً من هذا العدد، نستعرض معكم في كل عدد لمحة مبسطة عن مرض معين من أمراض المخ والأعصاب التي قد يصعب تشخيصها، لكن للأسف يعاني الكثيرون منها وقد لايتواجد العلاج لحالاتهم، فيعانون التهميش في مجتمعاتهم.
اليوم حديثنا عن (مُتلازمة فقدان 16p11.2).

الساعة الرابعة مساءً..
بدأت أفواج الطلاب رويدًا رويدًا تجتاح ساحة اللعب في الحديقة العامة، غطت صيحاتهم على زقزقات العصافير، تعالت الأصوات… أجراس الدراجات.. وأبواق السيارات لتتفادى دبدبة الأقدام.
جلست سعاد على المقعد تتأمل الساحة وهي تعج بالحياة، محاولة منها أن تنعم بالمقسوم بدلاً من قسوة التأقلم على المفروض
أن تنعم ببضع دقائق من الصمت تريح بالها مما يشغله، اختلطت الأصوات عليها وكأنها ضجيج صفير القطار يأتي من بعيد ليحمل بين طيات عقلها الشارد ما أتت هنا لتتناساه، لطالما كانت ابنتها سلمى حالتها مختلفة منذ الولادة.. كان رأسها أكبر حجماً من المواليد الآخرين، عند ستة أشهر أصيبت سلمى بأول نوبة صرع، حسبتها الأم هي الأولى والأخيرة من نوعها، لكنها استمرت معها واستمرت في تلقي العلاج للتقنين من تكرارها.
كبرت سلمى وأتمت عامها الأول، بدأت تخطو خطواتها الأولى..تقف تتعرقل فتقع… فرحت سعاد في البداية، لكن سرعان ما لاحظت أن حركة ابنتها سلمى تخلو من التوازن، وأغلب محاولاتها في المشي تنتهي بالسقوط المتكرر.
“تتفاوت قدرات الأطفال” جملة أراحت بال الأم عندما كانت تتردد على مسامعها..
التحقت سلمى بالمدرسة وبدأت تظهر عليها علامات تأخر وضعف في الذاكرة، ومع الوقت أبدت تقلبات جذرية في الوزن، لم تختفِ علامات ضعف الحركة كما كانت تأمل الأم، واستمرت تلك الأعراض للطفلة من اختلال التوازن والسقوط المستمر حتى سن الثامنة.
وتمر السنوات، في حين كان الأطفال يتنقلون من نشاط مدرسي إلى آخر، كانت سلمى ووالدتها يتنقلان بين الأطباء والمستشفيات.. تحاليل .. تشخيصات مختلفة.. حلقة مغلقة كلما مر الوقت اتسعت وازدادت اتساعًا وتدهورًا مع اختلاف وتزايد الأعراض.
ظهر عليها بعض علامات التوحد، فهي تكره تغيير الروتين بشدة، تتعلق تعلقًا شديدًا بأشياء معينة، نفور من الأصوات الصاخبة والضجيج وكذلك الأماكن المزدحمة وصعوبة في فهم الإشارات
الاجتماعية التي يحسبها البعض بديهية.
لم تعد تفهم سعاد ما بحال ابنتها سلمى أهو توحد؟؟.. صرع ؟.. تأخر في الحركة؟ وسرعان ما نال منها التعب العاطفي والجسدي والمادي.
وأثناء احدى الزيارات الطبية، اقترح عليهم أحد الأطباء إجراء اختبار جيني، واكتشفت الأم أن ما تعاني منه ابنتها هو نتيجة حذف شريحة ضخمة من كروموسوم (١٦) يسميها الأطباء( متلازمة فقدان 16p11.2).
تحتوي هذه المنطقة من كروموسوم (١٦) على حوالي ٤٧ جين، وفقدان هذه الشريحة هو شيء نادر يحدث في الأغلب في فترة الحمل، وتبدأ ظهور علاماته المتنوعة في الطفولة المبكرة.
وتتميز هذه المتلازمة بطيف من الأنماط الظاهرية العصبية التي تظهر بدرجات مختلفة بين المرضى مثل التوحد، السمنة المرضية، إعاقة حركية ولغوية وذهنية بدرجات متفاوتة وكذلك تشوهات خلقية، بما في ذلك التشوهات المرتبطة بالعمود الفقري.
اختلاف النمط الظاهري لهذه المتلازمة قد يرجع لأسباب كثيرة منها الوظائف المختلفة لكثير من تلك الجينات المحذوفة في نمو المخ والأعصاب واختلافات الخلفية الجينية والبيئية للأفراد .
للأسف.. نتيجة هذه الاختلافات الظاهرة على المريض فإنها تجعل تشخيص الحالات أكثر صعوبة على الأطباء، مما يؤدي في أغلب الأحيان إلى تأخير التشخيص وعدم التدخل في الوقت المناسب، مما يسلط الضوء على أهمية تأسيس الاختبارات الجينية بطريقة روتينية ومبكرة لتشخيص أفضل لتلك الحالات، والمساعدة في توجيه وتقديم المشورة للمرضى وأسرهم.
أهم ما توصلت إليه الأبحاث…
تُصنّف هذه المتلازمة من أمراض النماء العصبي، أي أنها تبدأ في فترة تكون مخ الجنين مما يصعب دراستها لعدم تواجد عينات تحتوي على هذا الخلل الجيني، والقيود الأخلاقية حول إجراء البحوثات على تلك العينات إذا توافرت.
في العقد الأخير تطورت الأدوات التي تُمكن الباحثين من الحصول على حل لإضافة أو حذف جين محدد أو أكثر من جين في آن واحد للخلايا في المعمل، لتمثل تلك المتلازمات التي يصعب توفر عينات بشرية لها، وبإمكانية إعادة برمجة الخلايا العادية إلى خلايا جذعية تشبه الخلايا الجنينية في قدرتها على التحول إلى أية نوع من خلايا الجسد أتاحت الفرصة لإنشاء خلايا عصبية وأنواع مختلفة من الأعصاب تحتوي على تلك الجينات المحذوفة لدراسة الاختلافات الناتجة في نمو تلك الأعصاب.
والآن تمكن الباحثون من استخدام هذه الخلايا الجذعية لإنشاء مجسمات خلوية ثلاثية الأبعاد تشبه في تكوينها وشكلها العقل النامي مما ساهم في فهم التفاعلات بين أنواع الخلايا المختلفة في العقل في مرحلة النمو وتأثير الإختلالات الجينية عليها
وتشير الأبحاث أن الاختلال في أعداد أو وظائف أو خصائص الخلايا العصبية المثبطة والمثيرة أثناء تكوين المخ قد يكون أحد الأسباب المؤدية للصفات المرتبطة بهذه المتلازمة.
سعاد وسلمى شخصيتان من نسج خيالي، لكن هناك أطفال وأسر بيننا قد يعانون من تلك الظواهر و عدم القدرة على تشخيص الحالة، والتهميش الناتج عن عدم الإدراك والوعي بحالاتهم.
قد لا يكون هناك علاج حالياً
لهذه المتلازمة ولكن فهم الأسباب المؤدية للأعراض ستساعد في التواصل بالأخصائيين المناسبين، كأخصائيين العلاج الوظيفي والبدني والنطقي للحصول على المساعدة المناسبة، وتغيير البيئة المحيطة بالشخص وروتينه اليومي لتلائم احتياجاته الحسية.
فللبحث العلمي أهمية عظيمة في فهم العقل والذات للحالات التي تصيب الكثيرين من البشر.
وإلى لقاء آخر في العدد القادم

اظهر المزيد

شبكه أخبار مصر

فاطمة الشوا رئيس مجلس إدارة جريدة شبكة أخبار مصر وصاحبة الإمتياز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock