العقلانية من أبى العلاء المعرى إلى ديكارت

للدكتور حسن عبد العال كلية التربية جامعة طنطا متابعة:أحمد عبد الحميد دعونا فى البداية نتعرف على العقلانية ، انها بإيجاز اتجاه تنويرى يثق فى الإنسان ويرفع الوصاية الملقاة عليه لأنه يملك العقل ويملك الحواس ، يملك الوسائل التى تمكنه من إدراك الحقيقة واكتساب المعرفة ولا حاجة لسلطة تفرض عليه لكى تدله على الحقيقة ، أنها تعنى باختصارثقة زائدة فى العقل وقدراته .
ويذكر تاريخ فلسفة العلم أنها سادت فى القرن السابع عشر الميلادى فى أوروبا كثورة على خضوع العصور الوسطى الطويل للسلطة الدينية ولأرسطو ، فكانت العقلانية التى أرست الأسس المكينة لظاهرة العلم الحديث . وهى فى هذا تدين لاثنين من كبار الرواد أولهما : رينيه ديكارت ( ١٥٩٦ – ١٦٥٠ ) ابو الفلسفة الحديثة الذى أكد أن العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس ، يدرك البديهيات بالحدس – أى الإدراك الفورى المباشر – ويصل إلى الحقائق اليقينية ، الله لا يخدع أبدا فلنثق فى الله وفى العقل ، ونرفع الوصاية عن الإنسان لينطلق باحثا عن الحقيقة ومشيدا للعلوم .
أما الرائد الثانى لعقلانية القرن السابع عشر وهو ما يرتبط اسمه بالعلم الحديث ، فهو فرنسيس بيكون ( ١٥٦١ – ١٦٢٦ ) الذى رفع الوصاية عن الإنسان عن طريق الثقة فى الحواس وفى الطبيعة ، فكان أبا التجريبية التى اقترن بها العلم الحديث فى مراحله الأولى .
ومن الجدير بالذكر انه فى القرن الثامن عشر الميلادى تمخضت العقلانية عما يعرف باسم عصر التنوير ، عصر الإيمان بقدرة العقل على فض كل معاليق هذا الوجود ، فكانت فلسفة التنوير الوريثة الأمينة للعقلانية .
لكن حضارتنا الإسلامية – وليس ذلك ادعاء – كانت أسبق فى إقرار العقلانية وتمجيد القران الكريم للعقل والثقة به وبقدراته على توجيه الإنسان إلى جادة الطريق المستقيم ، واحتفاء الإسلام بالعقل والثقة به ، يحتاج إلى أن نفرد له حديثا خاصا ، لكننى أقف عند رائد من رواد العقلانية فى تاريخ الحضارة الإسلامية هو الفيلسوف الشاعر ابو العلاء المعرى ، واوجز الحديث عن ريادتة للتيار العقلانى فى حضارة الإسلام فى أثرين من عشرات آثاره ، من ذلك بيت الشعر الرائع الذى خاطب فيه الإنسان منبها إياه إلى الطاقة الفكرية الجبارة التى أودعها الله فيه قائلا :
أيها الغر قد خصصت بعقل. فاستشره كل عقل نبى
ولك أن تسأل أى ثقة فى العقل أعظم من يرفع المعرى من قدره والثقة بقدراته إلى مستوى النبوة ، فيجعله لكل إنسان بمثابة نبى هاد ، أنه يسمو بقدرات العقل وإمكاناته إلى الحد الذى يستطيع أن يقوم برسالة الأنبياء على الأرض فى الهداية والخلاص واكتساب المعرفة الصحيحة والعلم النافع ، وابتغاء الحقيقة وإمكان الوصول إلى الحقائق اليقينية ، والتفرقة بين الحق والباطل ، والنجاة من المهالك وتجاوز كل صعب واتخاذ القرار الصائب ، وحسن الاختيار بين البدائل والإدراك الصحيح لعواقب الأمور . . . إلى آخر ما تشمله مهام النبوة تجاه البشر فى أمضى صور العقلانية ” كل عقل نبى ” .
أما الأثر الثانى لأبى آلعلاء فى العقلانية فهى نفى كل سلطة على الإنسان سوى سلطة العقل ، والسلطة فى تعريف بسيط يناسب مقام الحديث عن العقل ، هى المصدر الذى لا يناقش والذى نخضع له بناء على ايماننا بأن رأيه هو الكلمة النهائية وبأن معرفته تسمو على معرفتنا .
يقول ابو العلاء ” . . . لا أمام سوى العقل فى صبحه والمساء ” والمناسبة هو رد أبو العلاء على من قال بعصمة الامام ووجوب الخضوع لرأيه . والخضوع للإمام كان يتخذ شكل التقديس عند الشيعة . لكن دلالة القول عند المعرى ” لا أمام سوى العقل ” وهو ما يقول البلاغيون اسلوب قصر ، حيث حصر الإمامة فى العقل ، ينفى كل سلطة على العقل بأشكالها المختلفة منها مثلا الآراء القديمة الموروثة والاعتقاد بحكمتها ، ومنها سلطة الانتشار بمعنى شيوع الرأى بين الناس وزيادة عدد القائلين به ، ومنها الشهرة وذيوع صيت الشخص صاحب الرأى ولذلك تأثير فى نفوذه وخضوع الآخرين لمقولاته ، وغيرها من أشكال السلطة .
ذلك نموذج لتيار العقلانية فى تراثنا الفكرى وحضارتها إبان ازدهارها غرفته البشرية قبل أن ينتصر الفيلسوف العظيم ديكارت للعقل والعقلانية .