بقلم / محمـــد الدكـــروري
إن الله تعالى يوم القيامة لا ينظر إلى كم رصيدك أو ما هو منصبك ورتبتك، ولا ينظر إلى كم لديك من الأولاد والقصور والعقار، ولكن الله عز وجل ينظر إلى قلبك وما فيه من خير أو شر، لذا ينبغي علينا أن نهتم بهذا العضو ونزيّنه بزينة الإيمان والتوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، ويجب علينا أن نعلم تماما أن الله تعالى انزل لباسين للإنسان، لباسا ظاهرا يواري العورة ويسترها، ولباسا باطنا من التقوى يجمّل العبد ويستره، فإذا انكشف هذا الغطاء انكشفت عورته الباطنة كما تنكشف عورته الظاهرة بنزع ما يسترها من لباس، فإن صلاح الجوارح بصلاح القلب، وقيل أنه بعث الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشا لحرب الروم وكان من بينهم شاب من الصحابة هو عبد الله بن حذافة رضي الله عنه وطال القتال بين المسلمين والروم وعجب قيصر من ثبات المؤمنين وجرأتهم على الموت، فأمر بأن يحضر بين يديه أسير من المسلمين.
فجاءوا بعبدالله بن حذافة يجرونه والأغلال في يديه وفي قدميه فتحدث معه قيصر فأعجب بذكائه وفطنته، فقال له تنصّر وأنا أطلقك من الأسر، فغنظره هو يدعوه إلى ترك الإسلام وإعتناق النصرانية، فقال عبد الله بن حذافة لا فقال له تنصّر وأعطيك نصف ملكي، فقال له لا، فقال قيصر تنصّر وأعطيك نصف ملكي وأشركك في الحكم معي، فقال عبد الله بن حذافه رضي الله عنه لا والله لو أعطيتني ملكك وملك آباءك وملك العرب والعجم على أن أرجع عن ديني طرفة عين مافعلت، فغضب قيصر وقال إذن أقتلك فقال عبد الله أقتلني، فأمر به فسحب وعلق على خشبة وأمر الرماة أن يرموا السهام حوله، وقيصر يعرض عليه النصرانية وهو يأبى وينتظر الموت، فلما رأى قيصر إصراره أمر بأن يمضوا به إلى الحبس وأن يمنعوا عنه الطعام والشراب، فمنوعهما عنه حتى كاد أن يموت من الظمأ ومن الجوع فأحضروا له خمرا ولحم خنزير، فلما رآهما عبد الله.
قال والله إني لأعلم أني لمضطر وإن ذلك يحل لي في ديني، ولكن لا أريد أن يشمت بي الكفار، فلم يقرب الطعام، فأخبر قيصر بذلك، فأمر له بطعام حسن، ثم أمر أن تدخل عليه إمرأة حسناء تتعرض له بالفاحشة، فأدخلت عليه أجمل النساء، فلم يلتفت إليها فلما رأت ذلك خرجت وهي غاضبة، وقالت لقد أدخلتموني على رجل لا أدري أهو بشر أو حجر، وهو والله لا يدري عني أنا أنثى أم ذكر، فلما يأس منه قيصر أمر بقدر من نحاس ثم أغلى الزيت وأوقف عبدالله بن حذافه أمام القدر وأحضر أحد الأسرى المسلمين موثقا بالقيود وألقوة في الزيت المغلي فصرخ صرخه ومات وطفت عظامه تتقلب فوق الزيت وعبدالله ينظر إلى العظام فإلتفت إليه قيصر وعرض عليه النصرانية فأبى، فأشتد غضب قيصر وأمر به أن يطرح في القدر فلما جروه وشعر بحرارة النار بكى، ودمعت عيناه، ففرح قيصر فقال له تتنصر وأعطيك وأمنحك، قال لا، فقال له إذن ما الذي أبكاك؟
فقال أبكي والله لأنه ليس لي إلا نفس واحدة تلقى في هذا القدر، ولقد وددت لو كان لي بعدد شعر رأسي نفوس كلها تموت في سبيل الله مثل هذه الموتة، فقال له قيصر بعد أن يأس منه قبل رأسي وأخلي عنك، فقال له عبدالله بن حذافه، وعن جميع أسرى المسلمين عندك، فقال أجل، فقبل عبد الله رأسه ثم أطلق مع باقي الأسرى، فقدم بهم على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأخبر عمر بن الخطاب بذلك، فقال عمر بن الخطاب حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ، فقام عمر فقبّل رأسه، رضي الله عنهم، وقال حبر اﻷمة ابن عباس رحمه الله، ثلاثة لا أقدر على مكافأتهم ورابع لا يكافيه عني إلا الله، فأما الثلاثة، رجل أوسع لي في مجلسه، ورجل سقاني على ظمأ، ورجل اغبرت قدماه يمشي في حاجتي، وأما الرابع فما يكافئه عني إلا الله، رجل نزل به أمر فبات ليلته يفكر فيمن يقصده ثم رآني أهلا لحاجته فأنزلها بي.
وقيل أن بعد وفاة السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه من خولة بنت جعفر بن قيس الحنفية وهي من بني حنيفة، فولدت له ولدا سمّاه محمد، فهو محمد بن علي، غير أن الناس أرادوا التفريق بينه وبين ذرية السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها فسموه، محمد بن الحنفية، واشتهر بها أبدا رضي الله عنه، ولم يكن يكبره أخواه الحسن والحسين رضي الله عنهما بأكثر من عشرة أعوام، ونشأ محمد بن الحنفية، نشأة أبيه فروسية وبطولة وشدة وشكيمة، فكان أبوه يقحمه في الشدائد والمعارك، فقال له بعضهم يوما، لماذا يقحمك أبوك في مواطن لا يقحم فيها أخويك الحسن والحسين ؟ فكان جوابه عجبا من الفصاحة الهاشمية، قال لأن أخويّ هما عينا أبي وأنا يده، فهو يقي عينيه بيديه، فتأمل كيف تجاوز حظ نفسه، وكيف فضّل أخويه، وكيف التمس العذر لأبيه، وكيف لم يسقط في فخ النميمة.
وتأمل عبارته وإيجازها وإعجازها، ووقع بينه وبين أخيه الحسن خلاف فكتب إليه، أما بعد، فإن الله تعالى فضّلك عليّ، فأمك فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمي امرأة من بني حنيفة، وجدك لأمك رسول الله صلي الله عليه وسلم، وصفوة خلقه، وجدي لأمي جعفر بن قيس، فإذا جاءك كتابي هذا فتعال إليّ وصالحني حتى يكون لك الفضل عليّ في كل شيء، فلما بلغ كتابه أخاه الحسن رضي الله عنه، بادر إلى بيته وصالحه، فسبحان الله العظيم، ذرية بعضها من بعض، وعجب في التربية، فقد كان فطنا إلى درجة أن جعل الفضل كله لأخيه، ولم يبادر هو إلى مصالحة أخيه، حتى لا يكون له الفضل عليه، وأعطاه فرصة لذلك، ونبهه على فضل السبق، وأدبه هذا ليس مجرد أدب الأخ مع أخيه الأكبر، بل كان أدبا مع ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنه وعن إخوته وكل آل البيت الأطهار، ما تعاقب الليل والنهار.
زر الذهاب إلى الأعلى