بقلم / محمـــد الدكـــروري
إن أغلى ما يملك المرء هما الدين والوطن، وما من إنسان إلا ويعتز بوطنه لأنه مهد صباه ومدرج خطاه ومرتع طفولته، وملجأ كهولته، ومنبع ذكرياته، وموطن آبائه وأجداده، ومأوى أبنائه وأحفاده، حتى الحيوانات لا ترضى بغير وطنها بديلا، ومن أجله تضحي بكل غالى ونفيس، ولقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب مكة المكرمة مودعا لها وهي وطنه الذي أُخرج منه، فقد روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة “ما أطيبك من بلد، وأحبك إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكى ما سكنت غيرك” رواه الترمذي، فقد قالها بلهجة حزينة مليئة أسفا وحنينا وحسرة وشوقا، مخاطبا إياها “ما أطيبك من بلد” ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معلم البشرية، يحب وطنه لما قال هذا القول الذي لو أدرك كل إنسان مسلم معناه لرأينا حب الوطن يتجلى في أجمل صوره وأصدق معانيه، ولأصبح الوطن لفظا تحبه القلوب.
وتهواه الأفئدة، وتتحرك لذكره المشاعر، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الجحفة في طريقه إلى المدينة اشتد شوقه إلى مكة، فأنزل الله عليه قوله تعالى فى سورة القصص ” إن الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد” أي لرادك إلى مكة التي أخرجوك منها، وقيل في تفسير الآية أنه يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خلفه القلة المسلمة التي كانت يومها بمكة، يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مخرج من بلده، مطارد من قومه، وهو في طريقه إلى المدينة التي لم يبلغها بعد، فقد كان بالجحفة قريبا من مكة، قريبا من الخطر، يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه، والذي يعز عليه فراقه لولا أن دعوته أعز عليه من بلده وموطن صباه، ومهد ذكرياته، ومقر أهله، يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في موقفه ذلك، فما هو بتاركك للمشركين، وعندما هاجر إلى المدينة، واستوطنها ألفها، بل كان يدعو الله أن يرزقه حبها.
فيقول صلى الله عليه وسلم “اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد” رواه البخاري، فهو يدعو الله بأن يرزقه حب المدينة أشد من حبه لمكة وذلك لاستشعاره بأنها أصحبت بلده ووطنه التي يحن إليها، ويسر عندما يرى معالمها التي تدل على قرب وصوله إليها، ومثلما دعا بحبها فقد دعا لها “اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما جعلت بمكة من البركة” رواه البخاري، وفي رواية الإمام مسلم “اللهم بارك لنا في تمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعا لمكة، ومثله معه” رواه مسلم، ومن دعاء إبراهيم عليه السلام لمكة ودعاء محمد للمدينة يظهر حبهما لتلك البقعتين المباركتين، اللتين هما موطنهما، وموطن أهليهما، ومستقر عبادتهم، لقد اقترن حب الأرض في القرآن الكريم بحب النفس، فقال تعالى فى سورة النساء ” ولو كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم “
واقترن في موضع آخر بالدين، حيث قال الله عز وجل فى سورة الممتحنة ” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم” وكل هذا يدل على تأثير الأرض، وعلى أن طبيعة الإنسان التي طبعه الله عليها حب الوطن والديار، وإن ارتباط الإنسان بوطنه وبلده مسألة متأصلة في النفس، فهو مسقط الرأس، ومستقر الحياة، ومكان العبادة، ومحل المال والعرض، ومكان الشرف، على أرضه يحيا، ويعبد ربه، ومن خيراته يعيش، ومن مائه يرتوي، وكرامته من كرامته، وعزته من عزته، به يعرف، وعنه يدافع، والوطن نعمة من الله على الفرد والمجتمع، ومحبة الوطن طبيعة طبع الله النفوس عليها، ولا يخرج الإنسان من وطنه إلا إذا اضطرته أمور للخروج منه، كما حصل لنبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم عندما أخرجه الذين كفروا من مكة، فقال تعالى فى سورة التوبة ” إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا”
وكما حدث لموسى عليه السلام، وقال الله تعالى فى سورة القصص ” فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله أنس من جانب الطور” وقال علماؤنا فلما قضى موسى الأجل طلب الرجوع إلى أهله وحن إلى وطنه، وفي الرجوع إلى الأوطان تقتحم الأغوار، وتركب الأخطار، وتعلل الخواطر، ولما كان الخروج من الوطن قاسيا على النفس، صعبا عليها، فقد كان من فضائل المهاجرين أنهم ضحوا بأوطانهم في سبيل الله، فللمهاجرين على الأنصار أفضلية ترك الوطن، ما يدل على أن ترك الوطن ليس بالأمر السهل على النفس، وقد مدحهم الله سبحانه على ذلك فقال تعالى فى سورة الحشر ” للفقراء والمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون” وقيل عن حب الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وحنينهم إلى وطنهم مكة المكرمة “إن كان دعاة الوطنية يريدون بها أي الوطنية حب هذه الأرض.
وألفتها والحنين إليها والانعطاف نحوها، فذلك أمر مركوز في فطر النفوس من جهة، مأمور به في الإسلام من جهة أخرى، وإن بلال الذي ضحى بكل شيء في سبيل عقيدته ودينه هو بلال الذي كان يهتف في دار الهجرة بالحنين إلى مكة في أبيات تسيل رقة وتقطر حلاوة فيقول ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة، بواد وحولي إذخر وجليل، وهل أردن يوما مياه مجنة، وهل يبدون لي شامة وطفيل.
زر الذهاب إلى الأعلى