الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا ثم أما بعد إن الصداقة عنوان سلوك الإنسان، ومقياس شخصيته، تارة تصل بالإنسان إلى ذروة الرفعة، وتارة تهبط به إلى أدنى الدركات، وقد قيل إذا أردت أن تعرف همّة الإنسان ورجاحة عقله وبعد نظره وسعة أفقه فانظر إلى مقارنيه، وإن الصديق يتصف بخلاصة المحامد، يأمر بالبر ويدعو إليه،
ويئد المساوئ ويشجع الاعتدال والصديق الصادق رقيق في عتابه وعقابه، والصديق ينبغي أن يكون حكيما غير فاسق ولا منافق ولا مبتدع، وقيل قديما قل لي من تصاحب، أقل لك من أنت.
وقال بعض الأدباء لا تصحب من الناس إلا من يكتم سرّك، ويستر عيبك، فيكون معك في النوائب، ويؤثرك بالرغائب، وينشر حسنتك، ويطوي سيئتك، وقال جعفر الصادق رحمه الله لا تصاحب الكذاب فإنك منه على غرور، وهو مثل السراب، يقرّب منك البعيد، ويبعد عنك القريب، ولا تصاحب الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، ولا تصحب البخيل فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه ولا تصاحب الجبان فإنه يسلمك ويفر عند الشدة ولا تصاحب الفاسق فإنه يبيعك بأكلة أو أقل، قيل وما أقل؟ قال الطمع بها ثم لا ينالها، وقال لقمان الحكيم لولده وهو يعظه جالس العلماء، فإن القلوب لتحيا بالحكمة كما تحيا الأرض بوابل المطر، وإن من صور الصداقة الصادقة هي الصحبه بين الإمام مالك والإمام الشافعي.
حيث قال الإمام الشافعي لولا مالك بن أنس وابن عيينة، لذهب علم الحجاز، وكما قال الإمام الشافعي إذا جاءك الحديث عن مالك بن أنس، فشدّ به يديك، وكما قال الإمام الشافعي إذا ذكر العلماء، فمالك النجم، وما أحد أمن عليّ من مالك بن أنس، وكما قال الإمام الشافعي مالك بن أنس معلمي، وعنه أخذت العلم، وإن من صور الصداقة الصادقة هي الصحبه بين الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل، حيث قال الإمام الشافعي خرجت من بغداد، فما خلفت بها رجلا أفضل، ولا أعلم، ولا أفقه، ولا أتقى من أحمد بن حنبل، وكما قال الإمام الشافعي لأحمد بن حنبل يا أبا عبد الله، إذا صح عندكم الحديث، فأخبرونا حتى نرجع إليه، أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح، فأعلمني حتى أذهب إليه، كوفيّا كان أو بصريّا أو شاميّا.
وقال القاضي محمد بن محمد بن إدريس الشافعي قال لي أحمد بن حنبل أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم سَحرا أي قبل الفجر” وقال عبدالله بن أحمد، قلت لأبي أي رجل كان الشافعي فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ قال يا بني، كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فهل لهذين من خلَف، أو منهما عوض؟ وقال الإمام أحمد بن حنبل كان الشافعي إذا تكلم كأن صوته صوت صنج وجرس من حسن صوته، وقال صالح بن أحمد بن حنبل لقيني يحيى بن معين فقال لي أما يستحي أبوك مما يفعل؟ فقلت وما يفعل؟ قال رأيته مع الشافعي والشافعي راكب وهو راجل، أي يسير على قدميه ورأيته قد أخذ بركابه، أي لجام الحصان، فقلت ذلك لأبي، فقال لي قل له إذا لقيته إن أردت أن تتفقه، فتعال فخذ بركابه الآخر.