الحمد لله الذي نزّل على عبده الفرقان ليكون للعالمين نذيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إنه كان بعباده خبيرا بصيرا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فاللهم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، ثم أما بعد إعلموا جيدا أن للرحمة كمال فى الطبيعة يجعل المرء يرق لألام الخلق ويسعى لإزالتها، فهى كمال فى الطبيعة لأن تبلد الإحساس يهوى بالإنسان الى منزلة سحيقة تسلبه أفضل ما فيه وهى العاطفة الحية النابضة بالرأفة والرحمة والحب، فكانت القسوة إرتكاسا بالفطرة، لذا إستحق غلاظ الأكباد من الجبارين والكازين والمستكبرين أن يطردوا من رحمة رب العالمين كما صح عند الإمام الترمذى في حديث النبي صلي الله عليه وسلم.
“إن أبعد الناس من الله تعالى القلب القاسى” فالقسوة فى خلق الإنسان دليل نقص كبير وفى تاريخ امة دليل فساد خطير فالقسوة جفاف فى النفس لا يرتبط بمنطق ولا عداله، والقسوة نزوة فاجرة تتشبع من الإساءة والايذاء، أما الرحمه فهى أثر من الجمال الالهى بل هى ريح طيبه ترطب الحياة وتنعش الصدر لكن ذئاب البشر أبوا إلا الإعتراض والجفاء، وفى زمن فقد العالم فيه كل منابع الحب والرحمه أرد الله سبحانه وتعالى أن يمتن على العالم برجل يمسح آلامه ويخفف أحزانه ويستميت فى هدايته ويقاتل من أجله كدفاع الأم عن صغارها وهو من هو؟ إنه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ذالكم اليتيم الذى كان يتمه تشريفا لكل يتيم، اليتيم الذى أعاد البسمة والسعادة لليتامى على ظهر الارض.
اليتيم الذى إحتضن العالم بما سكب الله فى قلبه من الحلم والعلم وفى خلقه من الإيناس والبر وفى طبيعته من السهولة والرفق وفى يده من السخاوة والندى ما جعله أزكى عباد الله تعالي رحمة وأوسعهم عاطفة وأرحبهم صدرا، ولكن من هو اليتيم؟ فهل هو الذي فقد أباه فقط ؟ وماذا عن اللقيط ومجهول النسب، ألا يدخل هذان في مسمى اليتيم ؟ ولماذا كرر القرآن الكريم لفظ اليتيم ومشتقاتها أكثر من عشرين مرة ؟ وكيف قدم الإسلام اليتامى ومجهولي النسب إلى المجتمع ؟ وهل قدمهم على أنهم ضحايا القدر وبقايا المجتمع، أم على أنهم فئة من صميم أبنائه ؟ ومن الذي جلب الإهمال والإذلال لليتيم، فهل هو اليتم نفسه أم ظلم المجتمع له ؟ وكيف طرح القرآن الكريم مسألة اليتم؟
وكيف تقاطعت في آياته أوامر الشريعة ودلالات اللغة وإرادة المكلف على تأسيس كفالة رحيمة وعلاقة صادقة بين اليتيم والمجتمع ؟ وما هو موقف القرآن الكريم الصريح ممن يدعّ اليتيم ويمنعه من حقوقه الشرعية ؟ فكثيرا ما نسمع عن الآباء الذين فلذ أكبادهم فقد أطفالهم وفطر نفوسهم موت أولادهم، ويتناقل الناس أخبارهم في المجالس والتجمعات ويقدمون لهم التعزيات، ولكن قلما نسمع عن أطفال فجعوا بفقد آبائهم وذاقوا ألم اليتم في ساعات مبكرة من حياتهم، فعن هؤلاء اليتامى ومن هم في مثل ظروفهم يتغافل كثير من الناس، فقد شغلتهم أموالهم وبنوهم في الوقت الذي أمر به القرآن الكريم بإكرامهم وتخفيف معاناتهم وتعريف الناس بمصيبتهم، وبالظروف العابسة التي أحاطت بهم وأطفأت الإبتسامة من على هذه الوجوه الصغيرة.