دور الذكاء الإصطناعى الصينى فى حرب غزة بين إسرائيل وحركة حماس
تحليل الدكتورة/ نادية حلمى
الخبيرة المصرية فى الشؤون السياسية الصينية والآسيوية- أستاذ العلوم السياسية جامعة بنى سويف
لعل المفارقة التى استوقفتنى بشدة كخبيرة فى الشأن السياسى الصينى، هو توقفى للبحث وتحليل العلاقة بين “عملية طوفان الأقصى” أو حرب غزة فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ وتوظيف تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى فى الصين فى تلك الحرب، فقد لعب (دمج الذكاء الإصطناعى فى العمليات العسكرية الإسرائيلية وتدريب الولايات المتحدة الأمريكية لكوادر إسرائيلية على ذلك فى فترة وجيزة للقضاء على حركة حماس وأنفاقها المتشعبة داخل قطاع غزة، فضلاً عن توظيف الصين لذلك لإبراز هذا الدمار الشامل الذى سببه الإسرائيليون والأمريكان داخل قطاع غزة) دوراً محورياً فى هذا الصراع المحتدم بين الطرفين. كان رد فعل الصين سريعا، وكما أظهرت التقييمات المبكرة، تمكنت بكين من الاستفادة من الضغوط الشديدة التي يمارسها الرأي العام العالمي ضد جرائم تل أبيب، من أجل مهاجمة المعايير المزدوجة للغرب، وخاصة الولايات المتحدة، وكان رد فعل بكين الفورى بعد حرب غزة مباشرةً متمثلاً فى الإعتماد بكثافة على تقنيات الذكاء الإصطناعى المتقدم لصناعة صور وفيديوهات تصور الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل كالشيطان المدمر، وتعكس مدى الدمار والخراب فى قطاع غزة. لذا جاءت الصور والفيديوهات الصينية المنشورة علنياً بإستخدام تقنيات الذكاء الإصطناعى، فى إبراز هذا الإرتفاع الكبير فى عدد الضحايا المدنيين من صفوف الفلسطينيين.
فلقد وظفت الصين جيداً تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى للإنتصار فى معركة القيم التى تقودها دبلوماسياً فى مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والغرب، عبر بث الصينيين لصور وفيديوهات متقدمة مصممة بتقنيات الذكاء الإصطناعى، لإظهار المشاعر المعادية للولايات المتحدة الأمريكية فى الشرق الأوسط، كذلك أظهرت الصور والفيديوهات الصينية بنظام الذكاء الإصطناعى بعد حرب غزة الأخيرة مدى الإنقسام الحالى بين الأمريكيين الذين يدعمون إسرائيل، وأولئك الذين لا يدعمونها. كما لوحظ فى الوقت ذاته بدأ حملة مرتبطة بالحزب الشيوعى الحاكم فى الصين على إنشاء ونشر صور ساخرة ودعائية، أو ما يعرف بـ “ميمز” ينتجها الذكاء الإصطناعى، والتى صممت خصيصاً لإثارة المشاعر المعادية للولايات المتحدة الأمريكية فى المنطقة. فجاء التصميم الصينى للصور بإستخدام تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى الصينية عبر إبتكار تعبيرات لصور مختلفة تظهر مدى الكره الشعبى العربى والعالمى للولايات المتحدة الأمريكية، كتصميم يبرز جلوس العم سام الأمريكى على عرش مصنوع من البنادق فوق عبارة “تاجر الأسلحة الأمريكى” فى إشارة لقتله الفلسطينيين بعد رفض الولايات المتحدة الأمريكية عدة مرات للفيتو الصينى والروسى فى مجلس الأمن الدولى لوقف إطلاق النار فى قطاع غزة. كما أظهرت صور صينية أخرى منشورة صينياً لإبراز الرئيس الأمريكى “جو بايدن” وهو يرتدى زى عامل، ويقف أمام علم أمريكى وحوله مشاهد دموية تعكس حجم الدمار والخراب الحاصل فى قطاع غزة، ومكتوب على تلك الصورة عبارة بأن “الولايات المتحدة الأمريكية هى الداعم الوحيد للحرب فى غزة”.
كما جاء الرد الصينى على الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها من خلال آلية التصعيد المفاجئ فى مواجهة واشنطن، بإشعال المعركة التقنية معها إلى مستويات جديدة، من خلال قيام الصين بتقييد صادرات المعادن المستخدمة فى صناعة الرقائق والإلكترونيات ومنتجات الطاقة الشمسية. ونجد أنه وبحسب إشعار صادر عن (وزارة التجارة ووزارة الجمارك الصينية)، فإنه وإعتباراً من الأول من أغسطس ٢٠٢٣، وحماية للأمن القومى الصينى ومصالح الدولة الصينية، يمنع على أى طرف فى الصين، تصدير معدنى (الجاليوم والجرمانيوم)، حيث يجب على المصدرين لهذه المعادن، في حال رغبوا بالإستمرار فى شحنها إلى خارج الصين، التقدم بطلب للحصول على تراخيص تسمح لهم بذلك. ومن هنا نجد بأن آلية تقييد صادرات المعادن الصينية إلى الخارج، ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وربطها بالحصول على ترخيص، أتى ليظهر أن الصين لا تزال تحتفظ بأسلحة محورية فى حربها التكنولوجية فى مواجهة واشنطن وتل أبيب.
كما جاء التأييد الصينى لأهالى قطاع غزة المحاصر بمنع الإسرائيليين من الحصول على مكونات وتقنيات الذكاء الإصطناعى المتقدم ذات الإستخدام المزدوج المدنى العسكرى من الصين، حيث أعلن الإسرائيليين بأن الصينيين يفرضون نوعاً من العقوبات على تل أبيب بعد حرب السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. ورغم أن الصينيين لا يعلنون عن ذلك رسمياّ، لكنهم يؤخرون الشحنات إلى إسرائيل، بحجج وذرائع وأعذار مختلفة، مثل مطالبة الموردين الصينيين لنظرائهم المستوردين فى فى إسرائيل، بإصدار تراخيص تصدير إلى إسرائيل لم تكن موجودة من قبل، وذلك بغرض منع الصين للجانب الإسرائيلى من توظيف تلك التقنيات المتقدمة لأغراض عسكرية يضر بالمدنيين الأبرياء فى قطاع غزة. خاصةً مع ملاحظة الجانب الصينى مدى الإعتماد الإسرائيلى خلال قصفه لقطاع غزة المحاصر، على (قاعدة بيانات مدعومة بنظام الذكاء الإصطناعى)، وهو الأمر الذى سهل على جيش الإحتلال الإسرائيلى تحديد حوالى ٤٠ ألف هدف فلسطينى محتمل داخل قطاع غزة. كما جاءت الملاحظة الصينية، لإستخدام إسرائيل لنظام الذكاء الإصطناعى المعروف بإسم “لافندر”، والذى سمح للمسؤولين العسكريين الإسرائيليين بقتل أعداد كبيرة من المدنيين الفلسطينيين، خاصةً خلال الأسابيع والأشهر الأولى من الحرب. لذا جاء القرار الصينى بمنع تصدير التكنولوجيا المتقدمة لإسرائيل، لاسيما التى تستخدم لأغراض مدنية وعسكرية فى الوقت ذاته، وهو الأمر الذى أغضب الإسرائيليين وبشدة من الصينيين، وإتهامها بأنها ليست معهم فى الحرب.
وفى الوقت ذاته، فلعل ما إستوقفنى على الجانب الآخر، هو إستدعاء الجيش الإسرائيلى للآلآف من الخبراء اليهود حول العالم والإسرائيليين المتخصصين فى تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى لمساعدته فى حربه على حركة حماس داخل قطاع غزة، بهدف مساعدتهم لجيش الإحتلال الإسرائيلى عبر خبرتهم فى إستخدام تقنيات للذكاء الإصطناعى إلى إسقاط المسيرات الفلسطينية المقاومة ورصد أنفاق حركة المقاومة الإسلامية (حماس). حيث تشكل شبكة الأنفاق الفلسطينية فى قطاع غزة تحدياً أساسياً للجيش الإسرائيلى، الذي أعلن إكتشاف عدد كبير منها وتفجيره عبر تحديد أماكنها بإستخدام تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى المتقدم. كما لجأ الجيش الإسرائيلى إلى إستخدام طائرات مسيرة تستخدم تقنيات الذكاء الإصطناعى، لإعداد خريطة لهذه الأنفاق التى تشير تقديرات غربية إلى أنها تمتد على مسافة أكثر من ٥٠٠ كيلومتر. ومن هذه التقنيات الإسرائيلية إستخدام مسيرات قادرة على رصد البشر والعمل تحت الأرض. ووفقاً لتوضيحات عسكرية إسرائيلية، فإن هذه المسيرات الإسرائيلية بنظام الذكاء الإصطناعى، بمقدورها الدخول إلى الأنفاق التابعة لحركة حماس، والسماح برؤية قدر ما يسمح الإتصال معها.
وهو نفسه ما أشار إليه جيش الإحتلال الإسرائيلى حول الغرض من الغاية من هذه التقنيات التكنولوجية المتقدمة بالذكاء الإصطناعى فى حرب غزة، حين أشار المتحدث بإسم الجيش الإسرائيلى “دانيال هغارى”، إلى أن القوات الإسرائيلية تعمل “بالتوازى فوق الأرض وتحتها”. عبر التأكيد الإسرائيلى بأن هذه التقنيات تستخدم بالدرجة الأولى لإسقاط مسيرات تستخدمها الفصائل الفلسطينية، ورسم خرائط لشبكة الأنفاق في قطاع غزة المحاصر من قبل جيش الإحتلال الإسرائيلى داخل القطاع. وإستخدم الجيش الإسرائيلى للمرة الأولى تقنية (منظار تصويب الأهداف العسكرية معزز بنظام الذكاء الإصطناعى)، وهو المنظار العسكرى المتطور الذى طورته شركة “سمارت شوتر”، وزودت به أسلحة مثل البنادق والرشاشات. حيث لوحظ أن هذه التقنية الإسرائيلية، تساعد الجنود الإسرائيليين فى إعتراض الطائرات المسيرة من قبل حركة حماس، التى تستخدم كثيراً تلك المسيرات فى حربها ضد إسرائيل، مع إعلان الجيش الإسرائيلى رسمياً، بأن “تلك التقنية الإسرائيلية المتقدمة بنظام الذكاء الإصطناعى، تجعل كل جندى إسرائيلى، حتى لو كان أعمى، قناصاً”.
وعلى الجانب الأمريكى، بإعتبارها أبرز داعمى إسرائيل سياسياً وعسكرياً فى حربها داخل قطاع غزة، فقد بدأت الولايات المتحدة الأمريكية فى تدريب جنودها على إستخدام تقنية “سمارت شوتر” لإسقاط المسيرات التابعة لحركة حماس وجناحها العسكرى فى حربهم ضد إسرائيل، علماً بأن هذه المسيرات الفلسطينية التابعة لحركة المقاومة الفلسطينية “حماس” تستخدم بشكل متزايد منذ إندلاع حرب غزة من قبل فصائل مسلحة مناهضة لواشنطن، لإستهداف قواعد تضم جنوداً أمريكيين فى منطقة الشرق الأوسط. وهذا ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية فى تدريب عدد كبير من الكوادر الإسرائيلية واليهودية فى حرب غزة، لإختيار وتوسيع الأهداف الإسرائيلية فى الحرب على غزة، فقد دربت الولايات المتحدة الأمريكية تلك الكوادر الإسرائيلية على تطوير نظام ذكاء إصطناعى يسمى “حبسورا”، وهو نفسه النظام الذى سرع من وتيرة الإستهداف الإسرائيلى على المدنيين فى قطاع غزة، حيث يعمل نظام “حبسورا” على إستخراج كميات كبيرة من المعلومات من مصادر مختلفة، مثل: بيانات الإتصالات ولقطات الطائرات وبيانات المراقبة، ومن ثم تحليلها وإنتاج توصيات للأهداف التى سوف تستهدفها القوات العسكرية الإسرائيلية فى مواجهة حركة حماس وجناحها العسكرى.
ويبقى الشئ الجدير بالدراسة والتحليل فى هذا الإطار، هو ما يجرى خلف الكواليس بإستخدام تقنيات الذكاء الإصطناعى، حيث كشفت العديد من عمليات الإعتقال التى أجرتها سلطات الإحتلال الإسرائيلية بعد حرب غزة مباشرةً، بأنها تستخدم تقنية “مسح وجوه الغزيين أو أهالى غزة الذين يمرون عبر الحواجز العسكرية والأمنية الإسرائيلية بإستخدام تقنيات الذكاء الإصطناعى). حيث أنه بإمكان هذه البرامج الإسرائيلية المتطورة تحديد أسماء الأشخاص في ثوانى قليلة. وهذا بالظبط ما كشف عنه ضباطحاجة فى المخابرات الإسرائيلية ومسؤولون عسكريون، بتأكيدهم على أن إسرائيل بدأت فى إستعمال هذا البرنامج المتطور للذكاء الإصطناعى بكثافة بعد حرب غزة فى السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. مع الوضع فى الإعتبار، بأن جمع صور الغزيين وأرشفتها إسرائيلياً قد تم من دون علمهم أو موافقتهم على الإطلاق، وهو ما ينتهك أبسط معايير الحقوق الإنسانية التى دأبت إسرائيل على الدوام فى إنتهاكها.
ومن هنا نفهم، بأن الرد الصينى فى مواجهة الإستخدام الإسرائيلى والأمريكى لتكنولوجيا الذكاء الإصطناعى المتقدم فى مواجهة المدنيين والأبرياء العزل من أهالى وسكان قطاع غزة المحاصر بعد عملية “طوفان الأقصى”، جاء عبر منع المصانع الصينية وتحديداً مصانع التكنولوجيا الصينية الفائقة من تصدير منتجاتها إلى إسرائيل بعد حرب غزة، حيث تجد إسرائيل صعوبة فى الوقت الحالى فى إستيراد المكونات المتقدمة من الصين التى تفرض عقوبات غير مباشرة أو غير معلنة بشكل رسمى على إسرائيل على خلفية الحرب فى غزة. حيث بدأ الصينيين فى وضع العديد من العراقيل وخلق صعوبات بيروقراطية للشحنات الذاهبة إلى إسرائيل من المكونات التي يمكن إستخدامها لأغراض مدنية وعسكرية فى نفس الوقت. وهو الأمر الذى أفصح عنه عدد من المستوردين الإسرائيليين من أن الموردين الصينيين، قد بدأوا بممارسات تضيقيية فى مواجهتهم، من دون الإعلان عن عقوبات ضد إسرائيل، من خلال مطالبتهم المستوردين الإسرائيليين بملء العديد من نماذج الإستمارات، مع تأخير الصين للشحنات إلى إسرائيل، بحجة عدم ملء النماذج بشكل صحيح من قبل الإسرائيليين، والنتيجة هى صعوبات فى الحصول على الإمدادات من التكنولوجيا الصينية المتقدمة إلى إسرائيل.
رؤية الرئيس الصينى (شى جين بينغ) فى دعم تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى فى الداخل الصينى والخارج
تحليل الدكتورة/ نادية حلمى
الخبيرة المصرية فى الشؤون السياسية الصينية والآسيوية- أستاذ العلوم السياسية جامعة بنى سويف
جاءت رؤية الرئيس الصينى (شى جين بينغ) بشأن أهمية (القوة السيبرانية) فى تحقيق التفوق الإقتصادى والعسكرى، وتعهده بدعم التعاون التكنولوجى بين الدول الأعضاء فى تجمع دول “البريكس”، وذلك خلال إفتتاحه (الدورة التاسعة لتجمع البريكس) فى مدينة شيامين الصينية. كما جاء تشجيع الرئيس “شى جين بينغ” للشباب على طرق أبواب التكنولوجيا المتقدمة لتحقيق الريادة العالمية للصين فى شتى المجالات، لذا نلاحظ إسهام الباحثين الصينيين بأكثر من ألف ورقة بحثية، تتعلق بمجالات وتقنيات الذكاء العام الإصطناعى بين عامي ٢٠١٨ و ٢٠٢٤. كما جاءت توجيهات الرئيس (شى جين بينغ) بأن تتخذ الصين نهجاً أكثر شمولية، من خلال تغلغل وإختراق التكنولوجيا فعلياً فى جميع طبقات المجتمع الصينى، ومع تقدم تكنولوجيا القرن الحادى والعشرين، أصبحت الأساليب الرقمية للرقابة والمراقبة والرقابة الإجتماعية جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الصينى، حيث إستفادت حكومة من تقدم تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى كأداة للحفاظ على قوة الدولة وتوسعها وتمكينها. كما دفع مدى الإهتمام الصينى بالذكاء الإصطناعى، إلى ظهور منتجات صينية يومية تستخدم تقريباً هذه التكنولوجيا المتقدمة، سواء من الشركات الناشئة أو عمالقة التكنولوجيا فى الصين. كما نلاحظ أن أكبر شركات التكنولوجيا فى الصين مثل “علي بابا” و “تينسنت” و “بايدو” هم من يتمتعون بأكبر قدر من فرص النجاح فى السوق الصينية وعالمياً، نظراً لأعداد المستخدمين الكبيرة التي يمتلكونها ومجموعة الخدمات الواسعة التى يقدمونها.
وعند الحديث عن نجاح التجربة الصينية فى كافة المجالات وعلاقتها بالذكاء الإصطناعى، والإستثمار، وربطها بكيفية إستفادة مصر من تلك التجربة الصينية. فنجد أنه وبسبب التقدم الصينى الهائل فى مجال الذكاء الإصطناعى، حذر نائب وزير الدفاع الأمريكى الأسبق (روبرت وورك) الولايات المتحدة الأمريكية داعياً إياها إلى أن “تقود الولايات المتحدة الأمريكية الثورة القادمة فى تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى فى مواجهة التقدم الصينى، أو أن تصبح ضحية لها”. وأثرت التوترات بين بكين وواشنطن فى هذا القطاع المتعلق بالذكاء الإصطناعى، إذ تستثمر صناديق الإستثمار الأمريكية بشكل أقل فى المشاريع التي تعمل على (تصنيع شرائح الذكاء الإصطناعى) خارج الولايات المتحدة الأمريكية. وقد جادل الرئيس الأمريكىى “جو بايدن” بأن أمريكا باتت فى “منافسة إستراتيجية طويلة الأمد مع الصين”. وهو على حق فى ذلك، لذا تأتى التصريحات المستمرة من الساسة والمسئولين والعسكريين الأمريكان، بأن الولايات المتحدة الأمريكية ليست وحدها المعرضة للخطر من ناحية الصين، بل العالم الديمقراطى بأسره. حيث تشكل ثورة الذكاء الإصطناعى أساس التنافس الحالى بين الديمقراطية والإستبدادية من حيث القيم، مع عدم قدرة الديمقراطيات فى أن تنجح فى عصر الثورة التكنولوجية فى مواجهة الصين، وفقاً للمخاوف والتصريحات الرسمية الأمريكية. وهنا جاءت تصريحات رئيسة قسم أبحاث الإنترنت والأصول الرقمية فى الصين “باو” المسئولة عن (مجموعة ماكوارى للخدمات المالية)، بأنه: “فقط أولئك الذين يتمتعون بأقوى القدرات كالصين، هم الذين سيبقون على قيد الحياة”.
فالصين من الدول المتقدمة فى مجال الذكاء الإصطناعى، حيث أدرجته الصين فى (الخطة الإستراتيجية الوطنية) للبلاد فى عام ٢٠١٦. وقد أصدرت الحكومة الصينية لاحقاً العديد من السياسات لدعم تطوير تقنيات الذكاء الإصطناعى، إبتداءً من حماية رأس المال والملكية الفكرية، وصولاً إلى تنمية الموارد البشرية والتعاون الدولى، وتم التركيز على مجال الدراسات النظرية، لدعم تلك الموارد الدراسية المتعلقة بدمج الذكاء الإصطناعى فى الإقتصاد الوطنى للصين، وتطور الأمر مع التوسع عالمياً بعد إنتشار جائحة كورونا (كوفيد-١٩) ووضعت برامج صينية خاصة ومتطورة فى مجال الذكاء الإصطناعى للإستفادة منها فى قطاع الصناعة والإستثمار والإتصالات.
وفى الصين هناك علاقة بين الجامعات الصينية ومؤسسات الأبحاث والشركات الخاصة، حيث تتعاون تلك الجامعات تعاوناً وثيقاً لإجراء أبحاث فى مجال الذكاء الإصطناعى، ونقل التكنولوجيا المرتبطة به، من خلال تنفيذ برامج تدريب مواهب الذكاء الإصطناعى، وإنشاء مراكز بحثية ومعامل للتطوير وغيرها. ففى عام ٢٠١٧، أطلقت الصين وثيقة بعنوان “خطة تطوير الذكاء الإصطناعى للجيل الجديد”، بوضع بكين قواعد تمكنها من أن تصبح دولة رائدة فى هذا المجال. وفى عام ٢٠٢١، تم نشر (المبادئ التوجيهية الأخلاقية للتعامل مع الذكاء الإصطناعى فى الصين)، وتضمنت تلك الخطة الصينية أسساً منهجية لبناء قواعد معرفية ومعلوماتية لتطوير الذكاء الإصطناعى فى الصين. كما حدد التقرير الصينى المشار إليه أكثر الجامعات التى قدمت أكبر مساهمات فى هذا المجال، ويلاحظ أن خمسة جامعات صينية، تعد من أكثر مصادر أبحاث الذكاء الإصطناعى إنتاجاً فى عموم الصين، هى مؤسسات أكاديمية موجودة فى العاصمة بكين.
وتبرز العديد من التطبيقات العملية لتكنولوجيا الذكاء الإصطناعى فى الصين، حيث نجد أن التوجه العام الحالى فى الصين يسعى لعمل دمج بين الأجهزة والبرمجيات لجعل تقنيات الذكاء الإصطناعى أكثر قابلية للتطبيق العملى، بواسطة التوسع فى رقائق الذكاء الإصطناعى كفرصة جديدة للاعبين الساعين إلى السيطرة على صناعة الذكاء الإصطناعى المستقبلية. وأصدرت الحكومة الصينية فى شهر يوليو ٢٠١٧، خطتها الجديدة لتطوير (الجيل الجديد من الذكاء الإصطناعى)، بوضعها جدول أعمال طموح، ومكون من (ثلاث مراحل زمنية) مختلفة، تستهدف نمو قيمة صناعات الذكاء الإصطناعى فى البلاد إلى ما يتجاوز ١٥٠ مليار يوان صينى بحلول عام ٢٠٢٠. ولعبت عدداً من الجامعات الصينية بجانب الشركات الخاصة دوراً كبيراً فى دعم التخطيط الحكومى لتطوير قطاع تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى، ولعب عدداً من الخبراء والباحثين الصينيين دوراً متزايداً فى شركات القطاع الخاص الصينية العملاقة، مثل: (على بابا، بايدو، تنسنت)، لتحقيق إختراقات كبرى فى تكنولوجيات الذكاء الإصطناعى على المدى القصير والطويل، ولاسيما بعد أن أصبحت هذه الشركات منافساً قوياً للشركات الأمريكية والغربية العاملة فى هذا المجال.
وفى الوقت الحالى، وبعد إنتشار جائحة كورونا (كوفيد-١٩)، نجحت الحكومة الصينية فى تطوير تقنيات الذكاء الإصطناعى وإستخدامها فى كافة المجالات فى المجتمع، فقد تم تركيب أكثر من ٤٠٠ مليون (كاميرا مراقبة حكومية ودائرة مغلقة)، وذلك فى تقاطعات وزوايا الشوارع وممرات المشاة والحدائق ومناطق الترفيه والأسواق التجارية ومراكز التسوق ومداخل مبانى المكاتب والمتاحف والمعالم السياحية وأماكن الترفيه، الملاعب الرياضية والبنوك ومواقف الدراجات ومحطات الحافلات ومحطات السكك الحديدية وأرصفة الشحن والمطارات. كما تقود الصين الآن مجالات البحث والتطوير العلمى، وتسجل براءات إختراع أكثر من الولايات المتحدة. وهو ما سجلته تقارير صحف (فايننشال تايمز، نيويورك تايمز، فورين أفيرز)، حول مدى التقدم الصينى فى تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى المطبقة الآن فى الميدان المالى والذى يهدد المؤسسات المالية الغربية. كما تعتبر الصين، وفقاً لإستراتيجية “صنع فى الصين ٢٠٢٥”، كلاً من (علم الجينوم وقطاع الذكاء الاصطناعى) من القطاعات التى لها الأولوية فى البحث والتطوير، مع إجبار الصين لكافة الشركات ومؤسسات الأعمال، على المشاركة في إحراز تقدم فى هذين القطاعين، وذلك بموجب قوانين محلية خاصة تنص على وجوب مساعدة تلك الشركات للمخابرات العامة أو ما يعرف بوزارة أمن الدولة الصينية، لتطوير تلك التقنيات.
كما بدأ العلماء الصينيون ببناء تكنولوجيا “عقل المدينة”، وهو المشروع أو الفكرة التى تبناها عالم الذكاء الاصطناعى الصنيى “جاو” ومختبره أو معمله المتطور للذكاء الإصطناعى المعروف بإسم (بينغ تشينغ) والواقع فى قلب (مدينة شنتشن الجنوبية) فى الصين، لتعزيز أجهزة الكمبيوتر العاملة بنظام الذكاء الإصطناعى فى قلب “المدن الذكية”، وهى تلك التكنولوجيا الصينية المتقدمة، التى تمسح كل شوارع الصين بدءاً من شوارع بكين الواسعة إلى شوارع المدن الصغيرة، وتجمع وتعالج المليارات من المعلومات، من شبكات معقدة من أجهزة الإستشعار عن بعد والكاميرات وغيرها من الأجهزة التي تراقب حركة المرور والوجوه البشرية والأصوات، وغيرها. ونجد بأن هذا الإتجاه الذى تتبناه بكين لقيادة تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى فى العالم بمراحل تفوق الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، قد أثارت مخاوف أمريكية وغربية شديدة، بشأن مدى إمكانية أن يدعم (علم الجينوم والذكاء الاصطناعى) فى الصين سياسات الحزب الشيوعى الحاكم أثناء محاولاته للهيمنة على العالم وفقاً للتصور الأمريكى، خاصةً بعد أن أصبح (معهد بكين للجينوم)، هو أكبر مؤسسة عاملة فى قطاع الجينوم على مستوى العالم وليس فقط داخل الصين أو داخل آسيا.
ومن هنا نفهم، سعى الصين إلى قيادة العالم فى مجال الذكاء الإصطناعى بحلول عام ٢٠٣٠، وهو الهدف الذى تم توضيحه فى “مشروع الدماغ الصينى” الرسمى الذى تم الإعلان عنه فى عام ٢٠١٦. حيث يعد تطور علم الجينوم والذكاء الإصطناعى وعلوم الدماغ فى الصين، بمثابة أهم القطاعات التى ترصد لها الحكومة الصينية ميزانية خاصة، كأهم المجالات الحدودية، كما تم تسميتها فى الخطة الوطنية للدولة الصينية للإرتقاء بها وفقاً لخطة مدروسة وممنهجة على مدار ١٥ عام، بدأت فى عام ٢٠٢١ وستنتهى بحلول ٢٠٣٥.
طريق (الحرير الرقمى الصينى كجزء من الإستراتيجية الوطنية الصينية) فى تكنولوجيا الذكاء الإصطناعى
تحليل الدكتورة/ نادية حلمى
الخبيرة المصرية فى الشؤون السياسية الصينية والآسيوية- أستاذ العلوم السياسية جامعة بنى سويف
جاء إعلان الرئيس الصينى “شى جين بينغ” فى أكتوبر ٢٠٢٣، خلال كلمته الرئيسية التى ألقاها فى مراسم إفتتاح (الدورة الثالثة لمنتدى الحزام والطريق للتعاون الدولى فى بكين)، بأن الصين تعتزم إطلاق “المبادرة العالمية لحوكمة الذكاء الإصطناعى”، والتى تمثل نهجاً صينياً بناءاً لمواجهة الشواغل العالمية المتعلقة بتنمية الذكاء الإصطناعى وحوكمته، وترسم خططاً صينية جديدة للمناقشات الدولية ووضع القواعد الجديدة المنظمة فى هذا المجال. وخلال كلمته فى (مؤتمر الدورتين أو الجلستين) الذى يجمع بين غرفتى البرلمان فى الصين، وهما (مجلس نواب الشعب الصينى والمجلس الإستشارى السياسى للشعب الصينى) فى مارس ٢٠٢٤، جاء وصف رئيس الوزراء الصينى “لى تشيانغ” لتكنولوجيا الذكاء الإصطناعى فى الصين، بأنها باتت محرك مهم “للقوى الإنتاجية الجديدة” داخل الدولة الصينية. كما جاءت تأكيدات “لى تشجيانغ” التى حظيت بتغطيات واسعة فى التلفزيون الرسمى الصين وكافة الصحف المقربة من الحزب الشيوعى الحاكم فى بكين، بأن “الصين ستعجل برفع مستويات الحوسبة وتعزيز التطور فى مجال الخوارزميات وإستخدام البيانات، كى تتفوق فى السباق فى مواجهة الحكومات العالمية للسير مع طفرة الذكاء الاصطناعى”. كما جاء إستخدام الرئيس الصينى”شى جين بينغ” لمصطلح “القوى الإنتاجية الجديدة” فى سبتمبر ٢٠٢٣، عند تسليطه الضوء على الحاجة إلى وضع نموذج جديد للتنمية الإقتصادية يستند إلى الإبتكار فى القطاعات المتقدمة كتكنولوجيا الذكاء الإصطناعى المتطور.
ونجد أنه بعد إطلاق مبادرة الحزام والطريق الصينية فى عام ٢٠١٣، إنقسمت بلدان العالم، إلى دول مرتبطة بالصين إقتصادياً عبر طريق الحرير الصينى الرقمى، عبر (التزود ببنى تحتية صينية بدل إعتماد التكنولوجيا الغربية المسيطر عليها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وشركاتها الدولية). وفى الوقت الحالى، بات طموح الصين يتمحور حول “طريق حرير رقمى جديد” يربط العالم معاً بطرق أرضية وبحرية ورقمية، ويسمح للصين بأن تنشر نمطها السياسى والإقتصادى عالمياً. ومن هنا، حدثت تغيرات جديدة نتيجة المنافسة الصينية الأمريكية فى مجال البنى التحتية الرقمية، لدرجة أن الرئيس الصينى (شى جين بينغ) أعلن حالياً من ٦٠ مليار دولار لتكوين (علماء أفارقة لدعم النمو التكنولوجى المرتبط بالصين). فالتنافس الصينى – الأمريكى فى مجال الذكاء الإصطناعى قد قسم العالم لقسمين بعد إنتشار جائحة كورونا أو (كوفيد-١٩)، فقد جاء الوباء بمثابة إختبار مبكر للكشف عن قدرة كل
زر الذهاب إلى الأعلى