تفوق تكتيكات الإستخبارات المدنية والعسكرية الصينية فى مواجهة وكالة الإستخبارات الأمريكية و”البنتاغون”
تحليل الدكتورة/ نادية حلمى
الخبيرة المصرية فى الشؤون السياسية الصينية والآسيوية- أستاذ العلوم السياسية جامعة بنى سويف
هناك العديد من الجولات المستمرة من الصراع الإستخباراتى بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، بسبب تعدد الوكالات الإستخباراتية الرسمية الصينية وتنوع أنشطتها، وإتباع العديد من التكتيكات غير المألوفة لأجهزة الإستخبارات الصينية فى مواجهة نظيرتها الأمريكية، والتى تعد إحدى أكثر أجهزة المخابرات في العالم كفاءة وتعقيداً. ووفقاً لتحليلى لأسباب نجاح هذا الإختراق الإستخباراتى الصينى للمجتمع الأمريكى ذاته، فذلك يرجع بالأساس إلى وجود أكثر من ١٧ مليون أمريكى من أصول آسيوية، بينهم أربعة ملايين من أصول صينية، بالإضافة إلى شبكة هائلة من الشركات الوهمية وشركات الواجهة للصين، يبلغ عددها قرابة ثلاثة آلاف شركة صينية تحت مسميات مختلفة وغالباً لا تتبع حكومة الصين بشكل مباشر.
وهنا تأخذ العمليات الإستخباراتية الصينية العلامة التجارية رقم (٧) المميزة للعمل الإستخباراتى الصينى، والذى لا يعتمد فقط على تجنيد العملاء المؤثرين للحصول على معلومات مباشرة وحساسة، بقدر ما يعتمد على إغراق أجهزة الإستخبارات الأجنبية وأجهزة مكافحة التجسس الأخرى الخصمة بآلآلآف من عمليات التجسس صغيرة النطاق التى يبدو الكثير منها بلا قيمة، ولكن المحصلة النهائية التجسسية للصين على أعدائها تعد هى مجموع ما تم إستخلاصه من تلك العمليات الإستخباراتية والتجسسية البطيئة والمعقدة، وهو ما يعرف بالصينية بتقليد “غوانسكى”، والذى يعود جذوره إلى قرون طويلة، ويعنى بإستغلال شبكات العلاقات الشخصية البطيئة والقوية للعملاء الصينيين للتأثير على الأحداث والحصول على المعلومات. ولكن نجد أن الكثير من المعلومات حول أجهزة المخابرات الصينية تأتى بالأساس من المنشقين والمعارضين الهاربين خارج الأراضى الصينية، والذين تتهمهم جمهورية الصين الشعبية بالكذب للترويج لجدول أعمال مناهض لها.
وتعمل أجهزة الإستخبارات الصينية بإتباع وسائل متنوعة، مثل: (وزارة أمن الدولة، إدارة عمل الجبهة المتحدة، جيش التحرير الشعبى). وتقوم (وزارة أمن الدولة الصينية) التى تم تأسيسها فى الصين فى يوليو ١٩٨٣، ويعمل بها رسمياً قوامة ١٥٠ ألف موظف صينى رسمياً، بعمل جهاز الإستخبارات الوطنى للصين، يرمز لها ب MSS أى Chinese Ministry of State Security
وهى بمثابة وكالة أمنية وجهاز مخابرات تابع لجمهورية الصين الشعبية، مسؤولة عن مكافحة التجسس وكافة عمليات الإستخبارات الخارجية والأمن السياسى داخل وخارج الأراضى الصينية. ويقع مقرها الرئيسى بالقرب من (وزارة الأمن العام) لجمهورية الصين الشعبية فى العاصمة الصينية “بكين”. ويمتد نفوذ “وزارة أمن الدولة الصينية” في جميع أنحاء المجتمع الصيني، بدءاً من مقر الوزارة المركزية الرئيسية فى العاصمة بكين إلى فروعها في المقاطعات والبلديات المختلفة. وكان “تشين وين تشينغ” أول وزير سابق لأمن الدولة الصينية يتم تعيينه رسمياً فى المكتب السياسي للحزب الشيوعي، المكون من ٢٤ عضواً، وأمانته المركزية.
ويبقى الأمر الجدير بالذكر والتحليل لدى كخبيرة فى الشان السياسى الصينى، هو محاولة (وزارة أمن الدولة الصينية) فى الفترة الأخيرة إلى زيادة دورها العام والسياسى وخروجها لأول مرة علنياً، وذلك عبر الترويج لدورها فى “مكافحة التخريب والنزعة الإنفصالية والتجسس”، عبر إصدار إعلان رسمى بذلك للتعريف بنطاق عملها، بمناسبة “عيد الشرطة الصينى”، فى شهر يناير ٢٠٢٤، وهذا ما يعد من وجهة نظرى التحليلية بمثابة تغيير كبير فى طريقة عمل الوزارة، كما أن تفسيرى الأقرب لهذا النهج الجديد، هو أن الظهور العام المتزايد لوزارة أمن الدولة الصينية يعد جزءاً من تركيز الرئيس الصينى الرفيق “شي جين بينغ” المتزايد والحزب الشيوعى الحاكم على الأمن، ومحاولة الرئيس “شى” تقديم نفسه كأقوى زعيم صينى منذ “ماو تسي تونغ”.
كما أن الجديد فى الأمر نفسه ووفق متابعتى للداخل الصينى، هو إصدار “وزارة أمن الدولة الصينية” فى عام ٢٠٢١ علنياً تفاصيل بشأن آلية التوظيف بها، وإعلان أنها تجرى من خلال إختبار خدمة مدنية، وإطلاق الوزارة حساباً على تطبيق “وى تشات الصينى”، والذي يعد بمثابة منصة تواصل إجتماعى ذات شعبية كبيرة فى الداخل الصينى لنشر كافة المستجدات اليومية لعملها. والشئ المثير للإهتمام وربما الدهشة فى الوقت ذاته، هو إحتفال الصين لأول مرة عام ٢٠١٦ بـ “يوم تعليم الأمن القومى” السنوي بإصدار رسم كاريكاتيرى، بعنوان “الحب الخطير”، حثت فيه الفتيات على توخى الحذر من الأجانب الذين قد يكونوا جواسيس، وإحتفلت الصين بـ “اليوم الوطني للشرطة” في عام ٢٠٢١ للإحتفاء بإنفاذ وتمرير هذا القانون الجديد فى البلاد.
وتعمل “وزارة أمن الدولة الصينية” عبر الدمج بين عدة إدارات وأقسام رئيسية، أبرزها: (إدارة التحقيقات المركزية، وحدات التجسس فى وزارة الأمن العام)، وغيرها. وحسب (المادة ٤) من قانون الإجراءات الجنائية الصينى، فإن (وزارة أمن الدولة الصينية) تحصل على نفس سلطة الشرطة العادية فى إعتقال أو إحتجاز كل من له علاقة بجرائم أمن الدولة تحت إشراف النيابات والمحاكم. وأصبحت (وزارة أمن الدولة الصينية) بمثابة جهاز الإستخبارات المدني الرئيسى للصين، ويعمل تحت إشرافها جميع الهياكل الإستخباراتية الرسمية وغير الرسمية في البلاد، بإستثناء جيش التحرير الشعبى الصينى، والذى حافظ على جهازه الخاص للإستخبارات العسكرية، والخاضع مباشرةً لإشراف الحزب الشيوعي الصيني وليس تحت السيطرة المباشرة للحكومة. وتعد أخطر إدارتين تديرهما الإستخبارات العسكرية الصينية، هما: (إدارة الإتصال الدولية التابعة للإدارة السياسية العامة لجيش التحرير الشعبى، وجبهة العمل المتحدة، وهى هيئة تابعة بشكل مباشر لإشراف الحزب الشيوعي الصينى).
ويقوم على عمل المخابرات العسكرية فى الصين، من خلال ما يعرف بـ (المكتب الثالث)، والذى تتركز مهمته كذلك فى إعداد والإشراف على إختيار وتشغيل الملحقين العسكريين الصينيين فى السفارات الخارجية، وتدريبهم على جمع المعلومات الإستخباراتية، ولذلك تركز الإستخبارات العسكرية الأمريكية على كافة العاملين فى الملحقية العسكرية الصينية لديها، وتتهمهم على الدوام بالتورط فى أنشطة إستخباراتية سرية، وهذا ما يحسب لصالح (المكتب الثالث للإستخبارات العسكرية الصينية) ونجاحه في تطوير أساليب جديدة ومبتكرة، وتحقيق تقدم فى إختراق كافة وكالات الإستخبارات الأجنبية ومؤسساتها العسكرية والدفاعية، ولاسيما داخل الولايات المتحدة الأمريكية. لذا إستهدفت الولايات المتحدة الأمريكية عدة شركات صينية، وإتهمتها بأنه يتم إستخدامها من جانب بكين داخل الولايات المتحدة الأمريكية لتجنيد شركات أمريكية عسكرية للحصول على تكنولوجيا أمريكية مدنية ناشئة للأغراض العسكرية.
وتدير (وزارة أمن الدولة الصينية) لكافة عملياتها الإستخباراتية إعتماداً على (وحدات العمل لعملاؤها)، والمعروفة بإسم “شبكات عمل دانوى”. وغالباً ما تقوم “وزارة أمن الدولة الصينية” بالبدء فى مراقبة وتجنيد ضباطها منذ المرحلة الجامعية، حيث يأتي معظمهم من طلاب (جامعة بكين للعلاقات الدولية)، ويعد هذا هو السبب الجوهرى فى التفوق الإستخباراتى للصين بسبب نهجها المبتكر لتجنيد ضباط الإستخبارات في المراحل الجامعية من أجل اختيار المؤهلين بشكل أدق، فضلاً عن فحص خلفياتهم ومدى إتصالاتهم بجهات أجنبية أو سفرهم لفترة للإقامة فى الخارج، كما تركز (وزارة أمن الدولة الصينية) على إتقان شبكة عملاؤها للغات الأجنبية، من خلال إدارتها لمدرسة مكثفة لتعليم اللغات للضباط، بخلاف وضعهم لفترة طويلة تحت رقابة (قسم خاص للأمن الداخلى يعرف بالمكتب التاسع)، وتقوم وظيفة هذا المكتب الرئيسية فى تأهيل وتدريب كافة عملاؤهم وكوادهم بشكل خاص. وعلى الجانب الآخر، تقوم (وزارة الأمن العام فى الصين) والتي تعد بمثابة منظمة أو جهاز الأمن القومي الرئيسية فى الصين، وتشرف على جميع الدوائر الشرطية المحلية والإقليمية المحيطة بالمجتمع الصينى، وتتولى مهمة متابعة المنشقين والمعارضين لسياسات الصين وحزبها الشيوعى الحاكم، فضلاً عن تمتعها بصلاحيات واسعة، خاصةً في المجال السيبرانى أو التكنولوجى.
ومن أجل ذلك، لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية تملك رؤية حقيقية لخطط القيادة الصينية ونواياها على الإطلاق، بعد إعدام وسجن العديد من المتورطين الصينيين بتقديم معلومات للولايات المتحدة الأمريكية، ومن بينهم مسؤولون صينيون رفيعو المستوى. فى الوقت الذى لا تزال وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تحاز إعادة بناء قدراتها للتجسس داخل الصين. ومن أجل ذلك، أنشأت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (مركز خاص للتعامل مع التحدي العالمي الذي تشكله الصين) فى عام ٢٠٢١، يعرف بــ “مركز المهام الخاصة بالصين) أو إختصاراً بإسم
CMC
وتتهم الولايات المتحدة الأمريكية الصين بإستخدام مكاتبها الإعلامية فى الخارج فى أنشطة إستخباراتية، بما فيها الهيئات الحكومية وشبه الحكومية الصينية، والأكاديميات والجامعات والشركات وحتى وسائل الإعلام المختلفة، وهو ما دأبت الصين على نفيه بشدة. كما إتهمت الولايات المتحدة الأمريكية ما يعرف بـ (إدارة الدفاع الوطني لشؤون العلوم والتكنولوجيا والصناعة الصينية) أو إختصاراً بإسم “ساستيند”، والتى تناظر وتشابه عمل (وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتطورة الأمريكية) “داربا”، كما تزايدت الإتهامات الأمريكية لوكالة الأنباء الصينية “شينخوا”، بأنها تعمل كغطاء لضباط ووكلاء الإستخبارات الصينيين حول العالم.
ولتلك الأسباب المذكورة، صنفت إدارة الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” عدد من المؤسسات الصينية بصفتها شبكات تجسسية للصين داخل الولايات المتحدة الأمريكية، ومن أبرزها: (المؤسسة الدولية لتصنيع أشباه الموصلات (إس إم آى سى) الصينية العملاقة المنتجة للرقائق، وشركة النفط الصينية (سينوك)، وقامت السلطات الأمريكية بوضعهم على رأس قائمة صينية سوداء، وتصنيفها أمريكياً بأنها شركات تابعة للجيش الصينى. كما صنفت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” أربع شركات صينية، على أنها مملوكة أو خاضعة لسيطرة الجيش الصيني، بما فيها (الصين لتكنولوجيا الإنشاء) و(مؤسسة الصين الدولية للإستشارات الهندسية). ليرتفع بذلك عدد الشركات الصينية المدرجة رسمياً على القائمة السوداء الأمريكية إلى ٣٥ كيان صينى. كما إتهمت الولايات المتحدة الأمريكية قراصنة صينيون مرتبطون بالعمل مع (الإدارة الفنية الثالثة لجيش التحرير الشعبى الصينى) بشن حملات قرصنة واسعة ومتواصلة إستهدفت عدة أهداف أمريكية.
كما أعلن الرئيس الأمريكى السابق “دونالد ترامب” فى الأول من أغسطس ٢٠٢٠، على التوقيع على رسالة تنفيذية لحظر تطبيق “التيك توك الصينى للفيديوهات” داخل الولايات المتحدة الأمريكية، بسبب زعم السلطات الأمريكية، أن عمليات تجسس واسعة قد تمت من خلال المخابرات الصينية عبر هذا التطبيق فى الداخل الأمريكى. كما وصف مدير مكتب التحقيقات الفيدرالى الأمريكى “كريستوفر أ. وراى” فى يوليو ٢٠٢٠ الصين بأنها أكبر تهديد طويل الأمد للولايات المتحدة، مؤكداً بأن مكتب التحقيقات الفيدرالى الأمريكى يفتح كل ١٠ ساعات قضية مكافحة تجسس جديدة متعلقة بالصين، ومن بين ما يقرب من خمسة آلاف قضية مكافحة تجسس نشطة فى جميع أنحاء البلاد يرتبط نصفها تقريباً بالصين.
وبناءً على فهمنا لهذا التحليل، نجد بأن الأهمية القصوى فى الوقت الحالى داخل الصين تكمن فى الحفاظ على إعتبارات الأمن القومى ومكافحة الفساد فى كافة مستويات الدولة الصينية، الأمر الذى أدى لإقالة (٩ مسئولين عسكريين داخل اللجنة المركزية العسكرية للحزب الشيوعى الحاكم فى الصين بتهم تتعلق بالفساد) فى شهر يناير ٢٠٢٤، فضلاً عن إدخال العديد من التعديلات على (قانون مكافحة التجسس)، مع توسيع نطاق تعريف الصين للتجسس، ووضع تشريعات جديدة متعلقة بالبيانات، وشن الصين لحملة كبيرة إستهدفت كافة شركات الإستشارات الأجنبية عام ٢٠٢٣. وهو ما يفسر أسباب هذا الصراع الإستخباراتى والمعلوماتى الحساس بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية مع إتهام كل طرف للآخر بالتدخل فى شئونه.
زر الذهاب إلى الأعلى