ضياع المواريث بين الحياء والطمع
تقرير: عصام محمد
الميراث كم بسببه أرحام قطعت وصلات مُزقت وجرائم ارتكبت بين أشقاء حملتهم رحم واحدة! الميراث.. ما بين أب يميز بعض أبنائه وآخر يحرم أحدهم وثالث يمنع الإناث من الميراث.. وأخ ساقه الطمع وحب الذات للاستحواذ علي حق أخواته أو بنات أخيه المتوفي وإجبارهن علي الرضا بيع الممتلكات بأبخس الأثمان!
آلاف القضايا تكتظ بها ساحات المحاكم للنظر في مواريث مغتصبة وتقسيم تركة مضي علي وفاة صاحبها سنوات وسنوات.
عوامل عدة وراء ما يحدث من ظلم بالمواريث علي رأسها: الجهل والطمع والحياء جهل بفقه المواريث ومقصدها التشريعي وطمع بعض الورثة في أنصبة غيرهم وحياء أصحاب الحقوق وخاصة الإناث من المطالبة بحقوقهن فتمر السنون دون تقسيم للتركة ولا ينتفع بها إلا من وضع يده عليها ويبقي الآخرون ورثة مع إيقاف التنفيذ!.
التقيت اليوم مع الدكتور السعيد محمد علي من علماء الأزهر والأوقاف الذي اكد أن الإرث إرادة إلهية ومن الإعجاز التشريعي لتوزيع التركة أن الله يريد أن يجعل المال متداولا بين كل الناس وليس في أيدي فئة دون غيرها قال تعالي: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ).. وفي تقسيمه وتوزيعه حكمة عظيمة فجعل الله الأنصبة الكبيرة لصغار السن الذين يستقبلون الحياة ويحتاجون للمال والأنصبة الأقل للسن الكبيرة الذين يستدبرون الحياة فاحتياجهم للمال أقل.
عدوان علي حق الله
وأضاف أن العدوان علي الميراث هو عدوان علي حق الله وقد حذر النبي صلي الله عليه وسلم من ذلك فقال: «من حرم وارثا من إرثه لم يرح رائحة الجنة» ويكفي أن آيات المواريث اختتمها الله بقوله تعالي: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) فاستخدم القرآن لفظ «حدود الله» ولم يقل «أحكام أو تشريع الله» لما يترسخ في الأذهان من أن كلمة «الحد» لا يصح أن نتجاوزها بأي حال من الأحوال، ثم رتب الأجر علي من أطاع وامتثل لأوامر الله، وكذا العقاب لمن خالف.
ويوضح الدكتور السعيد أنه بالإضافة إلي وعيد الله ورسوله للمعتدي علي ميراث غيره فهناك عقوبات في الدنيا منها عدم البركة في المال والولد وفي الحياة عموما ثم قد يبتلي هذا الشخص المعتدي علي حق غيره بولد فاسد يكون سببا في تضييع كل ثروة أبيه ما اكتسبه بحقه ومن غير حقه والأب في النهاية محاسب علي هذا الظلم أمام الله عز وجل.
ويرجع الحرمان والتضييق علي المرأة في الميراث إلي التمييز والعصبية للنسب والعائلة الذي يترتب عليه عدم قبول انتقال ممتلكات العائلة إلي عائلة أخري وهذه من عادات الجاهلية البغيضة مشيرا إلي أن الظلم في المواريث يترتب عليه مشكلات كبيرة قد تصل إلي حد التشاجر والتقاتل وما ينتج عن ذلك من قطيعة بين الأرحام وتوارث العداء بين بني العمومة والخؤولة.
توزيع التركة في الحياة
من جهته وصف الشيخ عبد الحميد الأطرش رئيس لجنة الفتوي بالأزهر سابقا الظلم والحرمان في المواريث بأنه جاهلية جهلاء فالمواريث قسمها الله من فوق سبع سماوات لا دخل فيها لأحد من البشر لذا نجد أي مسألة فقهية فيها آراء متنوعة نقول الإمام الشافعي قال فيها كذا وأبو حنيفة قال كذا وابن حنبل قال كذا.. وهكذا أما في الميراث فالقول واحد لا خلاف عليه ولا يحتاج إلي اجتهاد.
ويضيف قائلا: التركة لا يقال عنها تركة إلا إذا مات المورث وما يفعله بعض الناس حال حياته من تقسيم ممتلكاته هي عطايا يعطيها لمن شاء كيفما شاء من غير أن يظلم أحدا وألا يزرع بذور الحقد والكراهية بين الأبناء فالأصل في العطايا أن تكون بالسوية لأنها ليست ميراثا وعدم تمييز بعضهم علي بعض دون حاجة وكلنا يعرف قصة النعمان بن بشير حينما أراد أن يخص أحد أبنائه بعطية دون الآخرين فقال له النبي: أشهد علي ذلك غيري.. وقال صلي الله عليه وسلم: «اتقوا الله واعدلوا بين أبنائكم».
لذا يجب علي الأب عدم التمييز بين الأبناء لما لذلك من أثر بالغ السوء وليست قصة سيدنا يعقوب مع سيدنا يوسف وإخوته بغائبة عن أحد.
أما إذا كان أحد الأبناء لديه ظروف معينة كمرض أو عجز أو صغر أو تعليم أو زواج أو نحو ذلك.. فهنا يجوز خصه (دون باقي إخوته) بعطية لظروفه.. وكذلك إذا كان أحد الأبناء له جهد خاص مع والده كما هو الحال للابن الأكبر في بعض الأسر يساعد والده في الأرض أو التجارة مثلا فيجوز للأب في هذه الحالة أن يخص هذا الابن في حياته بشيء من ماله مقابل جهده (مال مقابل جهد خاص).
ويحذر الأطرش الآباء والأمهات من أن يكتبوا كل ما يملكون بيعا وشراء لأبنائهم بحجة أن العمر انتهي وهذا مال الأبناء فيما بعد، قائلا: إن أحدا لا يدري من ينتهي أجله أولا ومن يرث من؟ وقد يمتد العمر وتحدث مستجدات من مرض أو أعباء إضافية تقتضي وجود المال فكيف يجرد الأب نفسه ثم يستجدي بعد ذلك حقه من أبنائه ويصير رهنا لأهوائهم؟!
ويتابع: معلوم في هذه الأيام أن معظم الزوجات تريد أن تستأثر بزوجها بعيدا عن أهله فحينما يكون الميراث موزعا في حياة الأب يتنكر له الجميع، وإذا ما احتفظ بماله إلي وفاته التفوا حوله، إن لم يكن برا وحبا، فطمعا وحرصا علي ما تحت يديه من مال.
أما إذا خشي الأب علي أبنائه الاختلاف والشقاق بعد وفاته، فلا مانع من أن يكتب ذلك ويقسمه بما يوافق شرع الله، ويظل الأمر مع إيقاف التنفيذ إلي حين وفاته علي أن تكون الأوراق والمستندات المثبت بها هذا الأمر مع أحد الأشخاص المشهود لهم بالأمانة والنزاهة والورع، ويظل الانتفاع بالممتلكات بأي صيغة يراها الأب بعيدا عن التملك الرسمي للأبناء.
مخالفات الميراث
أبرز المخالفات التي ترتكب في الميراث يلخصها الدكتور مختار مرزوق عبد الرحيم العميد الأسبق لكلية أصول الدين بأسيوط في الآتي:
ـ الذين يكتبون كل ممتلكاتهم لأولادهم الذكور ويحرمون الإناث بل هناك بعض قري الصعيد لا يورثون النساء بالمرة. وكذلك من يحرم أحد أبنائه من الميراث بسبب عقوق من الابن أو خروجه عن طاعة أبيه أو زواجه علي غير رغبة أبيه فهذا لا يجوز لأن العقوق وإن كان من الكبائر، إلا أنه ليس مبررا للحرمان من الميراث، فالعقوق لا يمنع الحقوق.
ـ ظلم الورثة بعضهم لبعض، بطمع الكبار في حق الصغار، وطمع الرجال في حق النساء، والاستحواذ علي ميراث الغير والانتفاع به وحرمان صاحب الحق الأصلي من ذلك، كأن يستحوذ الابن الذي تحت يده الأرض أو الشقة أو التجارة، علي أنصبة غيره حياء أو إجبارا سنوات وسنوات، دون إعطائهم مقابل هذا الانتفاع.
ـ الإجحاف في القسمة، بأن يتم إعطاء نصيب البنت الجزء المهمل أو القليل القيمة من التركة، كأن تأخذ ما يسمي بالأرض الميتة أو الدور الأخير من المسكن، أو إشراكها في أرض أو مسكن بشكل لا يمكنها من الانتفاع بهذا الميراث، فتضطر صاغرة إلي البيع بأبخس الأثمان ويضيق عليها أشقاؤها حتي لا تتمكن من البيع إلا لهم، وبالسعر الذي يحددونه هم، وربما أخذت الثمن علي دفعات متناثرة!.
مقترحات وحلول
وللقضاء علي مشكلات المواريث يطالب د.مختار مرزوق بعدد من الأمور:
ـ تربية الأبناء علي العدل والقناعة والإيثار، وتنشئتهم علي الحب والتراحم والعمل بالنص القرآني: (وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ). وعدم تمكين أحد الأبناء دون بقية إخوته من مستندات الملكية والحيازة والأوراق الخاصة بالممتلكات.
ـ الإسراع بتوزيع التركة عقب وفاة المورث، وإثبات ذلك في أوراق رسمية.. وتخصيص لكل ذي حق حقه، وتمكينه منه دون انتظار لـ «أربعين» أو «سنوية» المتوفي، فبمجرد وفاة الإنسان أصبحت التركة ثابتة لورثته. مع الأخذ فى الاعتبار أن الإسراع بالتقسيم لا يعني الطعن في أمانة الورثة أو التشكيك في علاقتهم بعضهم البعض، بل ذلك يحافظ عليهم جميعا، لأنه بالتأجيل قد تتغير النفوس أو الظروف، ويصبح من كان قراره بيده بالأمس، بيد زوجته أو أبنائه، فتحدث المشكلات.
ـ وجود الأم ليس مبررا لإرجاء تقسيم تركة الأب، والمطالبة بذلك ليس عقوقا بالأم، ويمكن للجميع أن يتعجلوا تحديد أنصبتهم، ومن أراد أن يترك الانتفاع بنصيبه لأمه فليفعل، مع مراعاة أن الجميع ليست ظروفهم واحدة، فهناك الميسور الحال وهناك من ينتظر الميراث ليعينه علي حياته.
ـ تيسير الإجراءات القانونية المتعلقة بقضايا المواريث وتسريعها لإنجازها في أقصر وقت، مع تشديد العقوبة علي من يظلم وارثا أو يحرمه أو يتسبب في حرمانه من ميراثه، مع تمكين المجالس العرفية ولجان المصالحات وفض المنازعات وديا، وكذلك تمكين «بيت العائلة» بتقديم الدعم اللازم لها، لتفعيل دورها في حل المشكلات المتعلقة بالميراث، الأمر الذي يخفف من أعباء القضاء الرسمي، الذي يكتظ بالقضايا من هذا النوع.
زر الذهاب إلى الأعلى