أخبار مصر

البحث العلمي في فهم العقل والذات

البحث العلمي في فهم العقل والذات

 

كتبت دكتورة . رنا فتيت

دكتوراه في علم المخ والأعصاب

 جامعة أدنبره – اسكتلندا

 

اليوم أستكمل معكم لمحة مبسطة عن نظرية ( ليونة الدماغ).

 استيقظ ” فينياس جايدج” ليبدأ يوماً آخر في عمله في مشروع بناء السكك الحديد. لم يكن سهلاً أبدًا ولا تجاوزه بالأمر الهيّن، ففي ذاك الوقت كان على طاقم العمال استخدام المتفجرات لنسف الصخور ورصف الطريق استعدادًا لبناء السكة الحديد، وغالباً ما كان يتم ذلك باستخدام قضيب حديدي لتعبئة المسحوق المتفجر في حفرة. عمل روتيني بالنسبة ل”جايدج”. لكن في يوم ما، وأثناء قيامه بذلك انفجر المسحوق. في تلك اللحظة اهتز عالمه بأكمله ليختفي ويحل مكانه بياضاً أعمى بصره، وصفير يصم الآذان ويخرس اللسان.

 طاح “جيدج” أرضًا ومن فوقه القضيب الحديدي الذي كان يمسكه، اخترق القضيب الحديدي خده الأيسر وتعدى ذلك إلى خلف عينه اليسرى متغلغلًا إلى الجانب الأيسر من دماغه ليخرج من جمجمته، لم يمت”جايدج”، لكن التغيرات السلوكية وشخصيته وتصرفاته من بعد الحادث جعلت هذه الحالة من أهم الحالات في مجال المخ والأعصاب.

 رويداً رويدا استعاد “جايدج” قدرته على الكلام والحركة حتى أنه بعد أربع سنوات من إصابته تمكن من العمل في رعاية الخيول و قيادة عربة الخيول.

 لكن تبعت معجزة شفائه تغيرات جذرية في شخصيته جعلت كل من يعرفه يندهش قائلاً: ” ليس هذا جايدج الذي كنا نعرفه!” قبل إصابته، كان شخصية متزنة، وكان ينظر إليه من قبل أولئك الذين عرفوه على أنه رجل ذكي، نشيط ومثابر على تنفيذ جميع خططه، لكن بعد الحادثة صار لا يستطيع ضبط نفسه والسيطرة عليها. أصبح يتصرف بطرق غير عقلانية، عديم الاحترام لزملائه على غير عادته، متسرع وعنيد، متذبذب ورافضًا للنصيحة، وكأن اصابته أدت إلى فقدان التثبيط الاجتماعي.

 توفي “جايدج” في عام ١٨٦١، لم يتم إجراء أي تشريح لجثتة حتى استعيدت جمجمته بعد سنوات، ومع تطور تقنيات الأساليب لإعادة بناء المجسمات ثلاثية الأبعاد وتصوير الأعصاب، تمكن الباحثون من فحص مدى التلف الذي أصيب مخه، ووجدت الأبحاث أن الضرر الناجم عن اختراق القضيب للدماغ يشمل تلفًا في الفص الأمامي من المخ في الناحية اليسرى وهي المسؤولة عن اتخاذ القرار العقلاني، وهو نفس العجز الذي ظهر عند”جايدج” في تصرفاته وسلوكه اثر الحادثة.

تعتبر تلك التغيرات في سلوكه بعد الحادث دليلًا قويًا على توطين وظائف المخ، مما يعني أن كل منطقة معينة في المخ مرتبطة بوظائف معينة، فص المخ الأمامي مرتبط بوظائف اللغة واتخاذ القرار والذكاء والتفكير.

 لذلك أصبحت قصة “جايدج” واحدة من أولى الأدلة المشيرة إلى دور هذه المنطقة من المخ في تشكيل شخصية الإنسان، بل وإن هذه القصة ساهمت في فهم أفضل لنظرية ” ليونة الدماغ”، وهي (قدرة الدماغ على نقل الوظائف من المنطقة التالفة بعد الإصابة إلى مناطق أخرى غير تالفة) لتتولى المسارات العصبية غير النشطة أو مستخدمة حاليا لأغراض أخرى، وتنفذ الوظائف المفقودة بسبب الإصابة.

سابقًا كان يعتقد الناس أن إصابات الدماغ تسبب عجزًا دائمًا لدى الشخص المصاب. لكن ومع ذلك، فقد ثبت أن “جايدج” بعد فترة قد تعافى بشكل ملحوظ، وعاش حياة طبيعية على الرغم من إصابته وكأن عقله إلى حد ما استطاع إصلاح نفسه واستعاد مخه الوظائف المفقودة.

 وتشيد الأبحاث أن المرونة العصبية تحدث في جميع مراحل الحياة لكن بدرجات متفاوتة، فهناك العديد من حالات السكتات الدماغية التي تمكن مصابوها من استعادة الكثير من وظائفهم الدماغية التي فقدوها سابقاً.

التعلم المستمر والتجارب الجديدة تؤدي إلى تقوية المسارات العصبية الجديدة في المخ، في حين أن المسارات العصبية التي يتم استخدامها بشكل غير متكرر تصبح ضعيفة وتموت في النهاية، وهكذا تتكيف العقول مع البيئات والتجارب المتغيرة، فعندما تشعر بالملل تعلم لغة أو حرفة جديدة أوشئ يشغل مخك حفز تلك الأعصاب الساكنة في مخك برياضة جديدة أو كتاب به معلومات مفيدة، لا تقل لقد نال مني الكبر، لا تلم كبر السن لأن عقلك يستجيب للبيئة التي تهيئها أنت له باعتبارها الجزء الرئيسي من وظيفته الطبيعية، فأنت تمتلك القدرة على تحفيز ذهنك وتنشيط عقلك والحفاظ على سلامته وبالتالي سلامتك .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock