مقالات

د.رنا فتيت تكتب البحث العلمي في فهم العقل والذات

البحث العلمي في فهم العقل والذات

          كتبت د . رنا فتيت

 

الحياه ليست بالرحلة الهينة، فغالباً ما تواجهنا أزمات وضغوط تستنزف منّا لذة الحياة وتضعف قدرتنا على الاستمتاع بها، و تركيبتنا الجينية لها دور كبير على مدى قابليتنا للاكتئاب.
اليوم نستكمل معكم ونستعرض لمحة مبسطة عن ( الاكتئاب لدى الرجال).
دقت ساعة المنبه ليعلن رنينها بداية صباح يوم جديد، ولازال يونس راقداً على سريره مغمضاً عينيه ضاغطًا جفنيه، لعله يستطيع حجب أشعة الشمس التي تخترق زجاج نافذة غرفته وتتخلل ستائرها لتصل إليه وتجبره على النهوض، محاولًا وضع الوسادة فوق رأسه ليكتم الأصوات التي بدأت تتسرب إلى أذنيه، أنشودة فوضوية من نداءات لبائع الخضار على ألحان أبواق السيارات تعلو كورال آباء وأمهات ينادون على ابنائهم، وزقزقة عصافير خافتة لم تعبأ نعيق غربان مجاورة، ولازال رنين المنبه مستمر.
استجمع يونس قواه، وكأن النهوض من على سريره مهمة صعبة تحتاج إلى طاقة مهولة من أعماق جسده باتت تتسرب منه يوماً بعد الآخر وهو لا يدري لماذا يلازمه التعب والإرهاق، أرقٌ في الليل وإجهادٌ بالنهار، جرَّ قدميه إلى المطبخ، نفس الإفطار ولكن بلا طعم، بلا رائحة، بلا معنى، يتساءل في صمت عقله وعتمة روحه أين ذهبت ألوان الحياة وبهجتها، يتنهد وينظر إلى نفسه في المرآة ولا يدري من هذا الشخص، ينحت ابتسامة مزيفة بين تجاعيد شفتيه ويتجه إلى المكتب، نفس الزملاء، نفس الأصدقاء ولكن حاجة في نفسه لم تعد تهوى الكلام، لم يعد يستمتع بهواياته السابقة، حاول التغيير وحاول تجربة أشياء جديدة وأماكن جديدة، لكن مع كل محاولة كانت تلك الفجوة بداخله تزداد إتساعاً، وذاك الظلام يشتد عتمة، وبدأت أعراض الاكتئاب تظهر عليه، حاول الاستعانة بصديق والتلميح بما يدور في خاطره، حاولوا التخفيف عنه قائلين: “ياعم يونس ..حالك أحسن من غيرك”، “قوم صلي ركعتين و هتبقى تمام”، “ما تجمد امال، الناس كلها تعبانة والدنيا دايره ومحدش بيشتكي “.
لكنه لم يكن ضعفاً أو عدم إيمان، ولم يجد جوابًا شافيًا يريحه، كان شيئاً آخر يراوده، شيئاً أكبر وأكبر يكاد يبتلعه، وبمرور الوقت، زادت أعراض الاكتئاب عليه وتفاقمت العزلة داخله وبدأ يتجنب الناس، الأسرة والأصدقاء والزملاء، نال منه التعب النفسي والجسدي، خالطه إحساس عدم الثقة بالنفس وكأنه بلا قيمة وحياته بلا معنى ووجوده في الحياة لا يهم ولا يفيد، وبدأت تراوده أفكار غريبة وأخذ يتساءل: ماذا لو اخترت النهاية ؟؟
إحصائياً، قليلاً ما يتم تشخيص الرجال بالاكتئاب مقارنةً بالنساء، حيث تبلغ معدلات اكتئاب الذكور حوالي نصف مثيلتها بين الإناث، وعلى عكس ذلك، تبلغ معدلات انتحار الرجال أعلى بثلاث مرات من معدلات انتحار النساء، ويرجع ذلك جزئيًا إلى إحجام الرجال عن التعبير عن مخاوفهم بشأن صحتهم العقلية، وبالأحرى يعود السبب إلى الندبة المتعلقة بالأمراض العقلية والنفسية في المجتمع، والتي دائماً ما تعيق طلب المساعدة أو تجاهل حالتهم النفسية والامتثال للعلاج وتحد من الإفصاح عن ما يدور بداخلهم.
هناك نظريات عديدة للأسباب المؤدية للاكتئاب على الصعيد الجيني والكيميائي، ومنها النقص أو الاختلال في جزيئات في العقل مثل (السيروتونين ) و(الدوبامين) و(النورادرينالين)، التي تساهم في التواصل بين الخلايا العصبية وتؤثر على وظائفها.
وتشير الدراسات أن الإجهاد المزمن من توتر أو ضغوط أو أحداث مفجعة في وقت مبكر من الحياة، من المؤشرات القوية لظهور الاكتئاب، وغالباً ما يتحد أكثر من سبب للمساهمة في ظهور أعراض الإكتئاب.
وأثبتت الدراسات مؤخراً أن هناك رابط قوي بين الخلفية الجينية للإنسان والاكتئاب، و كذلك تشير دراسات الأسرة والتوائم أن هناك عوامل وراثية تساهم في خطر ظهور الاكتئاب.
ومن الأدوات التي تستخدمها الأبحاث لإيجاد جينات محددة ذات رابطة قوية للاكتئاب هي إجراء “دراسات الارتباط على مستوى الجينوم”
(Genome wide association studies- GWAS)
و هي نهج بحثي يستخدم لتحديد المتغيرات الجينية المرتبطة إحصائيًا بخطر الإصابة بمرض أو سمة معينة، وتتضمن الطريقة معاينة الجينوم لكثير من الناس، والبحث عن المتغيرات الجينية التي تحدث بشكل متكرر أكثر في أولئك الذين يعانون من الاكتئاب مقارنة بأولئك الذين لا يعانون به لتحديد جينات معينة وترشحها للبحوث.. و قد تم تحليل أكثر من (١٠٠) جين مرشح لتحديد الارتباطات المحتملة بين النسخ البديلة لتلك الجينات وتأثرها وخطر الإصابة بالاكتئاب أو أعراضه.
الاكتئاب ليس ضعفا، الاكتئاب ليس عدم ايمان أو تنمر على الواقع، يونس ليس وحده، فهناك الكثير من الرجال الذين يظنون أن الاكتئاب ليس مرضاً حقيقياً أو أن المجاهرة بمشاعرهم قد تقلل من رجولتهم فتكون وصمة ضعف لهم. ​
هناك حاجة قوية للتوعية، من رسائل وبرامج صحية تستهدف الرجال وتساهم في إعادة صياغة المُثُل الذكورية التي تعتمد على الذات والقوة والسيطرة التي قد تساعد في إزالة وصمة العار المتعلقة باكتئاب الرجال في المجتمع، وقد تشمل السبل لتحقيق ذلك خطوط ساخنة تتيح لهم الاتصال وتلقي المساعدة مع ترك هويتهم مجهولة، ومن المهم مد برامج التوعية إلى طلاب المدارس وبالأخص في سن المراهقة، والتركيز على الأولاد لتقليل المعتقدات النمطية حول المرض العقلي للرجال والتأكيد على طلب المساعدة كمسار عمل حكيم.
البحث العلمي له أهمية عظيمة في فهم العقل والذات للحالات التي تصيب الكثيرين من البشر

اظهر المزيد

شبكه أخبار مصر

فاطمة الشوا رئيس مجلس إدارة جريدة شبكة أخبار مصر وصاحبة الإمتياز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock