د/عباس شومان يتحدث عن العلاقات الإنسانيَّة فى الإسلام والمساواة بين البشر رغم إختلاف اجناسهم
إعداد//محمد واكد
الدكتور عباس شومان وكيل الأزهر الشريف السابق يتحدث عن إبطال الإسلام الحنيف مظاهر التمييز المقيت بين البشر التى كانت سائدةً فى الجاهليّة، فكان من بين صحابة رسولنا محمد، صلى الله عليه وسلم، بلال الحبشى، وصهيب الرومى، وعبد الله بن أم
مكتوم، كفيف البصر الذى عاتب ربُّنا، سبحانه، فيه رسولَه حين انشغل عنه بعض الوقت مع سادات قريش، وأنزل فى ذلك قرآناً يُتعبّد به، وحملت السورة عنوان العتاب، فقال تعالى:”عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى”، وكان من بين صحابة النبى أيضاً سلمان الفارسى، الذى كرَّمه رسولنا بقوله: “سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ”.
ومن توجيهات رسولنا الخالدة التحذير من التفاخر والتباهى على الناس، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْفَخْرَ بِالْآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ، لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ فَخْرِهِمْ بِآبَائِهِمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الْجِعْلَانِ الَّتِى تَدْفَعُ النَّتَنَ بِأَنْفِهَا”، وهى حشرات صغيرة تحفر بيوتاً لها تحت الأرض.
فشريعتنا الغراء تنظر إلى الإنسان لذاته بمقدار سلوكه وعطائه دون نظرٍ إلى نسبه أو جاهه أو عِرقه أو دينه.
وقد رسَّخ الإسلام فى عقيدة أتباعه أن الناس جميعاً على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وعقائدهم هم خلقٌ لإله واحد، وقد خُلقوا جميعاً من أبٍ واحدٍ وأمٍ واحدةٍ وإن تباعدت أوطانهم واختلفت ألسنتهم، يقول الله تعالى: “يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”، وقال رسولنا، صلى الله عليه وسلم: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ”، قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ..”،٠ وأمرنا دينُنا بقبول الآخر المخالف لنا فى الدين، فقال تعالى: “..لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ..”، وقال: “وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ..”، وقال أيضاً: “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ”.
ولذا، فقد كان منهج رسولنا الكريم فى دعوة الناس إلى الإسلام هو العرض والبلاغ، وترك الخيار لمن يدعوهم فى دخول الإسلام أو البقاء على ما يعتقدون، شريطة عدم الاعتداء أو مناصرة المعتدين على المسلمين. وليس صحيحاً ما يُشيعه كثيرٌ ممن لهم مآرب أخرى، أن الإسلام يرفض الآخر ما لم يعتنق الإسلام؛ فكيف يستقيم هذا الادعاء مع ما سقناه من آيات صريحة فى النهى عن الإكراه فى الدين، ليس هذا وفقط بل سمح لنا ديننا بإقامة علاقات إنسانية مع المخالفين فى الدين المسالمين لنا: فيقول تعالى “لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”؟! وقد أَمِنَ رسولنا الكريم لعبد الله بن أريقط دليله فى طريق هجرته من مكة إلى المدينة المنورة وهو على غير الإسلام؟!
وإن صور التعامل بين رسولنا الكريم ومَن معه مِن المسلمين مع طوائف اليهود وغيرهم فى المدينة المنورة أكثر من أن تُعد فى مقالٍ كهذا، وهى تُؤكِّد مبدأ إقرار العلاقات الإنسانية بين المسلمين وغيرهم كما هو الحال والشأن فيما بينهم، فحين انتقل رسولنا الكريم إلى المدينة المنورة التى كانت تستوطنها قبائل يهودية لم يجبرهم على الإسلام ولم يطردهم منها، وإنما عقد معهم معاهدات سلام تضمن لهم البقاء على دينهم مع العيش فى سلام مع المسلمين، وهو نموذج يُمثّل أرقى صور المواطنة وقبول الآخر والتسامح فى التاريخ البشري، وكان يُحذِّر المسلمين من نقض عهودهم مع غير المسلمين تنفيذاً لتوجيهات القرآن الكريم الذى أمر بالوفاء بالعهود، فقال تعالى: “.. وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ”، ولم ينقض النبى، صلى الله عليه وسلم، عهداً حتى نقضوه هم، وحتى فى حال خروج مَن عقدنا معهم العهد والميثاق عن مقتضاه وثبوت إعدادهم العدة لقتالنا، أمرنا إسلامنا الحنيف بأن نُعلمهم بإلغاء معاهدتنا معهم قبل نشوب أى أعمال قتالية معهم، فقال تعالى: “وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ”.
ومن المبادئ الثابتة فى ديننا، تأمين الأجانب الداخلين إلى بلاد المسلمين لأغراض مختلفة، حتى لو كان الغرض إبلاغ رسالة تحمل تهديداً ووعيداً للمسلمين من دولة معادية للمسلمين، يقول تعالى:”وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ”، وروى أَنَّ رَجُلاً مِنَ المُسْلِمِينَ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَرُفِعَ إِلَى النَّبِى، صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ الله، صلى الله عليه وسلم: “أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَى بِذِمَّتِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ”.
ووقائع التاريخ والسير خير شاهد على حُسن علاقة المسلمين بغيرهم، والمساواة بينهم فى الحقوق والواجبات، فبعد خروج اليهود من المدينة ظل التعامل معهم قائماً، فقد اتفقوا مع النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، على زراعة أرض خيبر، على أن يكون للمسلمين أصحاب الأرض نصف الناتج من زرع أو ثمر، ويكون للمزارعين من اليهود النصف الآخر، وقد أرسى هذا المبدأ صورة من صور الشراكة وهى المعروفة فى الفقه الإسلامى باسم المزارعة. وفى مصادر السُّنة النبويّة الصحيحة: ” تُوُفِّيَ رَسُولُ الله، صلى الله عليه وسلم، وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِىٍّ، بِثَلاَثِينَ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ”. وقد ذهب إسلامنا الحنيف إلى أبعد من هذا؛ حيث أباح للمسلم الزواج من الكتابية – يهوديّة كانت أو مسيحيّة – لتكون أمّاً لأبنائه، ولم يجز له إكراهها على ترك دينها واعتناق الإسلام، بل كفل لها جميع حقوقها كما لو كانت مسلمة. وقد تزوج رسولنا الكريم بمارية القبطية المصريّة ولم يأمرها بتغيير اسمها، فظلت تُعرف به إلى يومنا هذا مع أنها اعتنقت الإسلام. ويمكن اعتماد وصيّة رسولنا الكريم لنا نحن المصريين بإخواننا المسيحيين نموذجاً وأساساً للتعامل بين المسلمين وغيرهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “اللهَ اللهَ فى قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعواناً فى سبيل الله”.
إن تلك النصوص الصريحة، وهذه المواقف العملية الراقية – وغيرها كثير – من صور التعامل بين المسلمين وغيرهم، تُبيِّن بجلاءٍ أن ديننا الإسلامى دين التسامح والتعايش الإنسانى، ويرفض رفضاً قاطعاً التمييز بين الناس على أساس الدين أو المعتقد، وأن حريّة الاعتقاد مكفولة للجميع، وأن اختلاف الدين ليس – ولا يجب أن يكون – مانعاً من التعايش السلمى وحُسن العلاقة بين البشر، يقول الله تعالى: “وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”، وتطبيقاً لهذه المبادئ السامية فى أُسس التعامل بين الناس، والعلاقة بين المسلمين وغيرهم، فقد أصدر الأزهر الشريف عام ٢٠١٢م عدداً من الوثائق الراقية، ومنها وثيقة الحريّات العامة التى نصت على حق الإنسان فى الحياة، وحقه فى الاعتقاد، وأنه لا يجوز التفريق بين الناس على أساس الدين أو الجنس أو العِرق، وعقد الأزهر الشريف مؤتمراً عالمياً عام ٢٠١٧م بعنوان (الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل)، كان من بين نتائجه رفض مصطلح (الأقليات)؛ لما فيه من الإحساس بالتهميش والدونية، واستبدله بمصطلح (المواطنة) الذى يسوِّى بين المواطنين جميعاً فى الحقوق والواجبات دون نظر إلى الطائفة التى ينتمون إليها أو الدين الذى يتبعونه، وهو المبدأ الذى أقره وأرساه رسولنا الكريم فى وثيقة المدينة المنورة التى هى أول وثيقة تُؤسّس للحريّة الدينية والمواطنة فى التاريخ.
إن أسهل السبل وأقصرها لتحقيق السلام والاستقرار المنشود فى العالم، هو التعامل على أساس المسئولية المشتركة والاحترام المتبادل، واستبدال ثقافة التعاون والتكامل بالفردية والغطرسة، وإنصاف المظلوم ولو كان مخالفاً فى الدين أو العِرق، والأخذ على يد الظالم ولو كان من أتباع الدين، ولنا القدوة الحسنة فى حلف الفضول الذى شهده رسولنا الكريم فى الجاهلية وأثنى عليه.
وعلينا كذلك أن نقف صفاً واحداً ضد العنصرية الدينية والتطهير العِرقى والتطرف والإرهاب، وأن نُدرك يقيناً أن الأديان السماوية بريئة من كل نقيصة يحاول أصحاب المصالح إلصاقها بها، وأن نضع أيدينا على الأسباب الحقيقية لظاهرة التعصب والتمييز، والتطرف والإرهاب، وكل الشرور والنيران المشتعلة هنا وهناك، وخاصة فى منطقتنا المنكوبة، وساعتها سيعم السلام والوئام، وينتشر الأمن والأمان، وتنتهى المآسى الإنسانية والصراعات الدامية حول العالم، ويبقى ما يتعلّق بالاعتقاد بين العبد وخالقه، فمن وفق فى اختيار طريق النجاة فاز ونجا، ومن اختار الأخرى فليتحمل مسئولية اختياره.
زر الذهاب إلى الأعلى