الدكروري يكتب عن إبن الفرات مع الإمام مالك
بقلم / محمـــد الدكـــروري
لقد كان الفقية القاضي أسد بن الفرات شديد الشغف بالعلم، فاستقل مرويات مالك في الموطأ واستزاده في السماع فقال له مالك حسبك ما للناس فخشي أسد أن يطول به الأمر ويفوته ما رغب فيه من لقي الرجال وسماع الحديث، فارتحل إلى العراق بعدما انتهى من سماع الموطأ، وبالعراق التقى أسد مع كبار تلاميذ أبي حنيفة أمثال محمد بن الحسن، وكان من كبار رواة الحديث، والقاضي أبي يوسف أخص تلاميذ أبي حنيفة وأفقههم،
فتعلم أسد أولا المذهب الحنفي، وأكثر من سماع الثقات في الحديث، واستفاد أسد من محمد بن الحسن استفادة كبرى وكتب عنه الكثير من مسائل المذهب الحنفي المشهور، واستمر قيام أسد في رحلته هذه إلى العراق جامعا بين طلب الحديث والفقه إلى سنة مائة وتسع وسبعين من الهجرة.
وهي السنة التي توفي فيها الإمام مالك، فارتجت العراق لموته وأقبل الناس من كل مكان للسماع من تلاميذ مالك، وعندها ندم أسد على أنه لم يبقي بجوار مالك وقال لنفسه “إن كان فاتني لزوم مالك فلا يفوتني لزوم أصحابه” وارتحل أسد بن الفرات إلى مصر، وكان بها أخص تلاميذ مالك وأكثرهم علما وورعا أمثال ابن وهب وابن القاسم، فدخل أسد أولا علي ابن وهب، وعرض عليه كتبه التي كتبها على مذهب أبي حنيفة وطلب منه أن يجيب عنها على مذهب مالك، فتورع ابن وهب عن ذلك، فدخل أسد على ابن القاسم فأجابه عن هذه المسائل، وتفرغ له ابن القاسم ولقنه المذهب كله بأصوله وفروعه، ودون هذه المسائل كلها في الكتاب الشهير المرونة، أو الأسدية، وحررها وضبطها حتى صارت المرجع الأول للفقه المالكي ببلاد المغرب وقتها.
وأخيرا عاد أسد بن الفرات إلى القيروان سنة مائة وواحد وثمانين من الهجرة، بعد رحلة علمية شاقة وحافلة بالفوائد تنقل فيها بين المدينة ومكة وبغداد والكوفة والفسطاط في طلب العلم حتى صار من كبار علماء المغرب وإماما من أئمة المسلمين بلغ درجة الاجتهاد فلا يفتي إلا بعد النظر والترجيح ولا يتقيد بمذهب معين، وعاد أسد بن الفرات إلى القيروان حاضرة المغرب وقتها ومنارة العلم الأولى في الشمال الإفريقي بأسره بعلم جم في الحديث والفقه بمدرستيها الأوليين الحنفية والمالكية، وجلس بجامع عقبة وأقبل عليه طلبة العلم من كل مكان من المغرب والأندلس واشتهر أمره وظهر علمه، وارتفع قدره، وانتشرت إمامته، جاءته الأسئلة من أقصى البلاد ليجيب عليها، وبلغ أسد درجة الاجتهاد.
فلم يكن يلتزم برأي واحد، بل يفتي بما يوصله إليه اجتهاده، وكان يلتزم من أقوال أهل المدينة وأهل العراق ما وافق الحق عنده، وكان إذا جلس في المجلس وسرد أقوال العراقيين، أي مذهب أبي حنيفة، قال له المشايخ الذين يجالسونه ممن يذهب مذهب أهل المدينة أي مذهب مالك يا أبا عبد الله أوقد القنديل الثاني فيسرد أقوال المدنيين ما يوضح سعة علمه، وكان أسد بن الفرات شديد الضبط والتحرير والدقة لكتبه حتى صار مضرب الأمثال، وقيل أنه بيعت يوما كتب فقيه مات، فنودي عليها “هذه كتب فقيه قد قوبلت على كتب الإفريقي” أي أسد بن الفرات، فبيعت كل ورقة بدرهم.
زر الذهاب إلى الأعلى