الدكروري يكتب عن إياكم وأذي الجار

الدكروري يكتب عن إياكم وأذي الجار
بقلم / محمـــد الدكـــروري
إن الجار منهي عن أذية جاره، ومأمور بالإحسان إليه، وفي الوقت نفسه فإن الجار مالك الدار، أو المحل له أن يتصرف في ملكه بأى وجه مباح من أوجه المنفعة، والجمع بين هذين الأصلين يكون بتقييد تصرف المالك بما يزيل الضرر المحدث عن الجار، إذا كان الضرر ليس بيسير ولا معتاد، وتقدير ذلك وتفصيله محل خلاف بين أهل العلم، ولذلك فإذا وقع النزاع والخصومة في ذلك يكون القضاء هو الفصل فيها، سواء من ناحية الترجيح والاختيار من أقوال الفقهاء، أو ناحية تقدير الضرر والنظر في طريقة رفعه، ويتأكد ذلك مع تقادم العهد، وطول المدة، وقال ابن قدامة في المغني، وليس للرجل التصرف فى ملكه تصرفا يضر بجاره، نحو أن يبني فيه حماما بين الدور، أو يفتح خبازا بين العطارين، أو يجعله دكان قصارة يهز الحيطان ويخربها.
أو يحفر بئرا إلى جانب بئر جاره يجتذب ماءها، وبهذا قال بعض أصحاب أبي حنيفة، وعن الإمام أحمد رواية أخرى لا يمنع، وبه قال الشافعى وبعض أصحاب أبي حنيفة، لأنه تصرف في ملكه المختص به، ولم يتعلق به حق غيره، فلم يمنع منه، كما لو طبخ في داره، أو خبز فيها، وسلموا أنه يمنع من الدق الذى يهدم الحيطان وينثرها، ولنا وقفه مع قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم “لا ضرر ولا ضرار” ولأن هذا إضرار بجيرانه، فمنع منه، كالدق الذي يهز الحيطان وينثرها، وكسقي الأرض الذي يتعدى إلى هدم حيطان جاره، أو إشعال نار تتعدى إلى إحراقها، قالوا هاهنا تعدت النار التي أضرمها، والماء الذي أرسله، فكان مرسلا لذلك في ملك غيره، فأشبه ما لو أرسله إليها قصدا، قلنا والدخان هو أجزاء الحريق الذي أحرقه، فكان مرسلا له في ملك جاره.
فهو كأجزاء النار والماء، وأما دخان الخبز والطبيخ، فإن ضرره يسير، ولا يمكن التحرز منه، وتدخله المسامحة، فإن التشريعات في ديننا والوصايا في إسلامنا تبدأ بتحقيق التوحيد، وحُسن العبادة، ومتانة العلاقات، وصفاء الصلات، وهى الرابطة الإسلامية والأخوة الإيمانية هي لب الدين، ولباب المشاعِر، يحيا بها المسلم ويحيا لها، عقيدة وشعائر وصلات يأخذ بعضها برقاب بعض، وقيل أن من أحكام الملك التام أنه يعطي المالك ولاية التصرف في المملوك على الوجه الذي يختار، كما يمنع غيره من التصرف فيه من غير إذنه ورضاه، وهذا لا يكون إلا عندما يخلو الملك من أي حق عليه للآخرين، ولكن هذا الحكم قد يقيد بسبب الجوار لتجنب الإضرار بالجار.
وقد اختلف الفقهاء في تقييد الملك لتجنب الإضرار بالجار، فذهب المالكية والحنابلة والحنفية فيما عليه الفتوى عندهم إلى أن المالك لا يمنع من التصرف في ملكه إلا إذا نتج عنه إضرار بالجار، فإنه يمنع عندئذ مع الضمان، لما قد ينتج من الضرر، وقيد الحنفية والمالكية الضرر بأن يكون بيَّنا، وحد هذا الضرر عندهم، أنه كل ما يمنع الحوائج الأصلية يعني المنفعة الأصلية المقصودة من البناء كالسكنى، أو يضر بالبناء أي يجلب له وهنا، ويكون سبب انهدامه، وقد ذهب الشافعية إلى أن كل واحد من الملاك له أن يتصرف في ملكه على العادة في التصرف، وإن تضرر به جاره أو أدى إلى إتلاف ماله، كمن حفر بئر ماء أو حش فاختل به جدار جاره، أو تغير بما في الحش ماء بئره.
لأن في منع المالك من التصرف في ملكه مما يضر جاره ضررا لا جابر له، فإن تعدى بأن جاوز العادة في التصرف ضمن ما تعدى فيه لافتياته، والأصح أنه يجوز للشخص، أن يتخذ داره المحفوفة بمساكن حماما وطاحونة ومدبغة وإصطبلا وفرنا، ودكانا ونحو ذلك، كأن يجعله مدبغة، إذا احتاط وأحكم الجدران إحكاما يليق بما يقصده، لأنه يتصرف في خالص ملكه وفي منعه إضرار به، والثانى المنع للإضرار به.