دين ودنيا

الدكروري يكتب عن إعمال العقل في الهدف المنشود

بقلم / محمـــد الدكـــروري

إن من الناس من أعمل عقله في الهدف الذي خُلق لأجله وهو عبادة الله تعالى، وهذا حال المسلمين، غير أنهم في ذلك صنفان، فالصنف الأول هو من وظف عقله في التفكير في جلب مصالح الآخرة ودفع مضارها، مع أخذ ما تيسر له من أسباب العيش الدنيوي، جاعلا الآخرة هدفه الرئيس في حياته، والدنيا تتبع ذلك، فهذا أعقل الناس وأصلحهم وأتقاهم وأنجحهم، والصنف الثاني وهو من أعمل عقله في كيفية الوصول إلى خيرات الدنيا وملذاتها، صارفا جُل تفكيره في ذلك، مكتفيا من الإسلام ببعض الشعائر، فأضحى مغلبا أمر دنياه على أمر آخرته، وهذه حياة أكثر المسلمين، حيث صار العمل للدنيا هو المستولي على الجهد والوقت والتفكير، وهم بهذا يخسرون خيرا كثيرا حينما جعلوا الآخرة في هامش اهتمامهم وعملهم.

وهناك عقول ذكية وألباب مشرقة، لكن في أحوال الدنيا وشهواتها فحسب، فهذه عقول خاسرة حين أظلمت في مصالح الآخرة ومنافعها، فهي ربحت الدنيا لكنها خسرت الآخرة، فكم من ذكي ألمعي، ومخترع عبقري هداه عقله الواسع وذكاؤه الخارق إلى مجاهل ومسالك في أمور الدنيا لم يصل إليها أحد قبله، فصار صاحب اكتشافات وحقائق ونظريات، وأوصله عقله وذكاؤه إلى مقامات رفيعة في شؤون الحياة، لكنه لم يوصله إلى خالقه ويعرفه دين ربه الحق، فماذا استفاد من ذلك العقل الكبير والذكاء الوقاد لحياته الأبدية؟ فبئس العقل الناجح دنيويا، المخفق أخرويا، وكم من إنسان مسلم لديه معرفة محدودة بمصالح الدنيا، ودراية ضئيلة بمعارفها وعلومها، ولكنه يعرف ربه، فيؤدي حقه، ويستعد للقائه بزاد التقوى.

فهذا هو العاقل حقا وليس ذلك المبدع والمخترع الكافر، ولكن ما أجمل أن يكون لدى الإنسان، هو عقل كبير في العمل للآخرة، والعمل للدنيا أيضا، يفيد بذلك نفسه عند الله، ويفيد غيره من الناس في هذه الحياة، وإن العقل لا يسلم من أعداء يحيدون به عن الطريق المستقيم، ويعدلون به عن إعمال تفكيره فيما ينجيه عند ربه العظيم، ويصلح له حياته الدنيا صلاحا غير مشوب بالباطل والأكدار، فالعدو الأول هو الهوى، وهو ميل النفس إلى ما تستلذه الشهوات من غير داعية الشرع، بحيث يصير الإنسان عبدا مطيعا لكل ما تشتهيه نفسه من الباطل، وأصحاب العقول المعبدة للهوى لا يفكرون إلا بملذات أجسادهم وشهواتها العاجلة، وليس لديهم تفكير في أسباب النجاة في الآخرة، فهم في سكر الهوى والشهوة، فإذا جاءهم ملك الموت صحوا.

ولا يخفى أن الهوى عن الخير صاد، وللعقل مضاد لأنه ينتج من الأخلاق قبائحها، ويظهر من الأفعال فضائحها، ويجعل ستر المروءة مهتوكا، ومدخل الشر مسلوكا، وقال بعض الحكماء العقل صديق مقطوع، والهوى عدو متبوع، فليحفظ المرء عقله من سلطان الهوى الذي إذا دخل في رعيته هلك، فقال بعض أهل العلم “والعقل والهوى متعاديان فالواجب على المرء أن يكون لرأيه مُسعفا، ولهواه مسوفا، فإذ اشتبه عليه أمران اجتنب أقربهما من هواه، لأن في مجانبته الهوى إصلاح السرائر، وبالعقل تصلح الضمائر، وقال آخر ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحا وسرورا ولذة أكمل من لذة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما، وهنا يمتاز العقل من الهوى” وقيل لبعض الحكماء أوصنا بأمر جامع.

قال احفظوا وعوا أنه ليس من أحد إلا ومعه قاضيان باطنان أحدهما ناصح، والآخر غاش، فأما الناصح فالعقل، وأما الغاش فالهوى، وهما ضدان فأيهما ملت معه وَهى الآخر يعني ضعف، والعدو الثاني للعقل هو المعلومات الخاطئة، التي تشكله في بوتقة انحراف، وتسقيه أسباب عطبه، ومادة انحرافه، حتى يختل توازنه الفكري، ويفسد سلوكه العملي، ويضل بذلك عن جادة الحق، وتلك المعلومات المضلة قد تأتيه من معلم أو وسيلة إعلامية مرئية أو مسموعة أو مقروءة، أو جليس مشوش الفكر، ولو بقي المرء خلوا من ذلك لكان جهله وبعده عن تلك المعلومات المسمومة خيرا له، ولهذا ندم بعض الخائضين في الفلسفة وعلوم الضلال بعدما ضلت عقولهم في خضمها، ونصحوا الناس بالبعد عنها، وتمنوا لو ماتوا على عقائد العجائز.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock