بقلم أ. د. جمال زهران
متابعة عادل شلبى
ما يجري الآن، ومنذ التدخل الروسي في أوكرانيا، يوم 24 فبراير/ شباط 2022، حيث مرّت خمسة شهور، تعادل (150) يوماً، حتى الآن، هو معركة عنيفة على كلّ المستويات، ومحورها محاولات الغرب لتكسير عظام روسيا، ومن خلفها الصين، لكي تحول الولايات المتحدة ومعها بريطانيا، ومن خلفهما أوروبا، دون دخول هاتين الدولتين إلى مربع النادي الدولي، والمزاحمة على قمة النظام الدولي، لتظلّ هذه القمة أحادية وتحت السيطرة والهيمنة الأميركية وبلا منافسة.
ولكن ليس كل ما يشتهيه الغرب بقيادة الولايات المتحدة، يتحقق في الواقع العملي، وليس كلّ ما تخطط له أميركا، تتمّ ترجمته عملياً، وليس كلّ ما يطمح إليه الغرب، وما يضعه من استراتيجيات، يمكن أن ينجح وباكتساح على المنافسين، إلى حدّ توهّم أنه ـ أيّ الغرب ـ يفوز دائماً بالضربة القاضية!!
والطبيعي أنّ النظام الدولي يشهد صراعاً بين آن وآخر، ولكن النتيجة دائماً هو الفوز لأحد الطرفين في مواجهة الآخر، بالنقاط وليس بالضربة القاضية. فوفقاً لنظريات المباريات في العلاقات الدولية، فإنّ النتيجة عادة ما تفضي إما إلى نتيجة صفرية أو لا صفرية. وتعني النتيجة «الصفرية»، أن يقوّض طرف، الطرف الآخر بالقضاء عليه نهائياً، أيّ إما هذا أو ذاك دون قبول بالتعادل، على عكس النتيجة اللاصفرية، التي تتيح التعادل بالنقاط، والفوز بعدة نقاط لهذا الطرف في فترة ما، ثم الفوز بعدة نقاط أخرى للطرف الآخر، وهكذا…
وقد تصوّر البعض واهماً، أنّ النظام الدولي يقع تحت السيطرة الأميركية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945، وحتى الآن! مروراً بفترات الصراع والحرب الباردة مع الشرق بقيادة الاتحاد السوفياتي، وتجنّب الطرفان المواجهة المباشرة، إلى أن تفكّك هذا الاتحاد، وخروجه من قمة النظام الدولي مؤقتاً. ولذلك سعت إلى افتعال عدة أحداث أخذت طابعاً عالمياً، من أهمّها: أحداث سبتمبر 2001، والتي تضمّنت ضرب برجي التجارة، وهي مؤامرة أميركية بالأساس، وكشفت روسيا مؤخراً إلى أنها تمتلك الوثائق لثبوت أنّ هدم البرجين في قلب نيويورك، جاء بترتيبات مخابراتية عبر زرع قنبلتين في داخل البرجين، وليس عن طريق الطائرات المختطفة التي دخلت في البرجين، كما جاء في السيناريو الأميركي المُذاع! فضلاً عن واقعة اختلاق التنظيمات الإسلامية الإرهابية، والتي تتمثل في تنظيم القاعدة، والذي كان يمثل الدافع المباشر للغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001، وتوابعه تنظيم الدواعش، وغيره، مما ظهر في أرض العراق وسورية وفي العديد من الدول العربية.
ثم تبع ذلك قيام الولايات المتحدة بغزو العراق عام 2003، لتصبح الولايات المتحدة في حالة حصار دائم لروسيا من أفغانستان إلى العراق، الأمر الذي يحول دون صعود روسيا إلى مربع القمة في النظام الدولي مرة أخرى، حسب التقديرات الاستراتيجية الأميركية!
وقد تبنّت أميركا استراتيجية «الفوضى الخلاقة»، للسيطرة على المنطقة العربية كلها، وإخضاعها للنفوذ الأميركي تماماً، وبلا مزاحمة أو منافسة من أية قوى أخرى، حتى الدول الأوروبية ذاتها!
وحاولت الولايات المتحدة، توظيف الغضب الشعبي في عدة بلدان عربية، بسبب التدهور الاقتصادي الحادث، وشيوع فكرة التوريث خاصة في مصر وتونس وليبيا، واليمن! وكانت النتيجة أن سبقت الشعوب العربية، الرغبة الأميركية في تفجير الأوضاع في المنطقة، واندلعت الثورات بالتتابع خاصة في تونس ومصر (وهي ثورات حقيقية)، وعلى الهامش تحريك الأمور في ليبيا لإسقاط القذافي، وفي اليمن لإسقاط علي صالح، ونجحوا في هذين البلدين! إلا أنهم حاولوا تحريك الأمور في سورية، وفشلوا في إسقاط الرئيس بشار الأسد! ومع ذلك يبقى في الذاكرة أنّ ما حدث كان جزءاً من مخطط بغضّ النظر عن طبيعة ما حدث. ثم حدثت موجات أخرى في لبنان، والعراق، والسودان وفي تونس وفي الجزائر، وكلها كانت تحت السيطرة، ولم تفلح في تغيير الواقع، ولا يزال الإقليم العربي في مأزمة حقيقية، حتى الآن!
وعلى الجانب الآخر، كانت روسيا في رحلة صعود إلى قمة النظام الدولي، حيث استثمرت الفرصة للاستجابة لنظام الأسد السوري، لدعمه والتمركز على الأرض السورية، مما حال بين سقوط النظام أو تغييره، وكانت الفرصة لروسيا كي تثبت أقدامها في شمال الإقليم العربي بدعم سورية، ودعم إيران، ودعم محور المقاومة. ثم كان الاختبار الثاني في أوكرانيا، والتي حركها الغرب (أميركا وأوروبا) عام 2014، فكانت الصدمة الكبرى لأميركا عندما قرّر بوتين، احتلال جزيرة القرم والاستيلاء عليها وتحويلها لتصبح جزءاً من روسيا العظمى، والتهديد باحتلال أوكرانيا كلها وضمها إلى روسيا العظمى!
ولم يهدأ الأميركان، حيث أصروا على تفجير أوضاع أوكرانيا، ظناً منهم أنهم سيخضعون روسيا تحت السيطرة الأميركية الأوروبية! وتمكين حلف الناتو من تهديد روسيا، ورسالة إلى الصين، ليتم انفرادهم بالعالم والنظام الدولي!
إلا أنّ القرار الروسي بالتدخل في أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الماضي، كان هو البداية لتأكيد التغيير في النظام الدولي والانتقال إلى التعددية العالمية وانكسار حدة الأحادية التي كانت تقودها الولايات المتحدة، للمعسكر الاستعماري، وانهيار الدولار عالمياً. والسؤال: ما هي ملامح هذا التغيير وأركانه في ظلّ هذه التطورات؟ ذلك هو المقال المقبل.
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والأمين العام المساعد للتجمع العالمي لدعم خيار المقاومة.
زر الذهاب إلى الأعلى