بقلم / محمـــد الدكـــروري
إن المشي إلى الضعفاء، والمشي إلى البؤساء له لذة يعرفها من يعرفها، وإن المشي إلى المحرومين البائسين له رحمة يجدها من وجدها، فهؤلاء الأئمة الأخيار الصفوة الأبرار، عرفوا مقدار المعاملة مع الله، فاختاروا لنهارهم العلم والعمل، واختاروا لليلهم جبر القلوب المكسورة، وإدخال السرور عليها، فلما أرادوا أن يغسلوه رحمه الله، خلعوا ثيابه، فوجدوا ظهره متشحطا من كثرة ما حمل عليه من الطعام، فرحمه الله رحمة واسعة، وكان صلى الله عليه وسلم، يحب أصحابه ويبدأهم بالسلام ويكنيهم ويدعوهم بأحب الأسماء إليهم، بل كان يقف لخدمتهم ويجهد نفسه لراحتهم، ويقول أنس بن مالك رضى الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسقي أصحابه، فقالوا، يا رسول الله، لو شربت؟ قال “ساقي القوم آخرهم شربا” وكان من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض أخطاء الغير، يحكي خوّات بن جُبير عن نفسه، فيقول نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران.
قال فخرجت من خبائي، فإذا أنا بنسوة يتحدثن فأعجبنني، فرجعت فاستخرجت حلة فلبستها، وجئت فجلست معهن، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبة، فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هبته واختلطت، وقلت يا رسول الله، جمل لي شرد، فأنا أبتغي له قيدا، ومضى فاتبعته، فألقى إليّ رداءه، ودخل الأراك فقضى حاجته وتوضأ، فأقبل والماء يسيل على صدره من لحيته، فقال صلى الله عليه وسلم “أبا عبدالله، ما فعل ذلك الجمل؟ ” وارتحلنا، فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال ” السلام عليك أبا عبدالله، ما فعل شراد ذلك الجمل؟ “ فلما طال ذلك عليّ أتيت المسجد، فقمت أصلي، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حجره، فجاء فصلى ركعتين، فطولت رجاء أن يذهب ويدعني، فقال ” أبا عبدالله، طوّل ما شئت أن تطوّل، فلست بمنصرف حتى تنصرف” فقلت في نفسي والله لأعتذرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولأبرئن صدره، فلما انصرفت، قال “السلام عليك أبا عبدالله، ما فعل شراد ذلك الجمل؟ ” قلت والذي بعثك بالحق، ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت، فقال “يرحمك الله” ثلاثا، ثم لم يعد لشيء مما كان، ولقد كان النبى صلى الله عليه وسلم، من صفاء معدنه، وإشراقة نفسه، كان يحب الجمال، ويكره القبح، وتهفو نفسه إلى المعاني الرائعة، وتنفر من معاني الشدة والغلظة، حتى أنه غير أسماء أصحابه التي فيها جفوة أوقسوة وبدلها إلى ما فيه رقة وعذوبة، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه غير اسم عاصية وقال ” أنت جميلة” وغير اسم أصرم قال له أنت ” زرعة” وغير اسم حزن، وجعله سهلا، وغير اسم العاص، وعزير، وشيطان، وغراب، إلى هشام، وسمى حربا “سلما” وأرض عفرة، سماها “خضرة” وشعب الضلالة، سماها “شعب الهدى” وبنو الزينة، سماهم “بنو الرشدة” وبني معاوية سماهم “بني الرشيدة” وكان النبى صلى الله عليه وسلم.
إذا أكل عند قوم لم يخرج حتى يدعو لهم، فدعا لعبد الله بن بسر فقال صلى الله عليه وسلم “اللهم بارك لهم في ما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم ” وقد سقاه رجل لبنا فقال صلى الله عليه وسلم ” اللهم أمتعه بشبابه فمرت به ثمانون سنة لم ير شعرة بيضاء” وهكذا فإن الرحمة أفضل ما تكون بالدلالة على الخير، فكم من أناس هُدوا إلى سواء السبيل، ودُلوا إلى المعلم والدليل، فأصابوا رحمة الله العظيم الجليل، ولقد أخبر النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، أن الجنة فتحت أبوابها لإمرأة بغى من بغايا بني إسرائيل، لمجرد أنها سقت كلب عطشان، فعن أبي بكر بن أبي شيبة، وعن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ” إن امرأة بغي رأت كلب، في يوم حار، يُطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بمُوقها، أي استقت له بخفها، فغفر لها” رواه مسلم، فقد غفر الله تعالى، لهذه البغي ذنوبها بسبب ما فعلته من سقي هذا الكلب.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن النار فتحت أبوابها لامرأة حبست هرّة، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “عُذبت امرأة في هرّة، لم تطعمها، ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض” رواه البخاري ومسلم، ولقد كان النبى صلى الله عليه وسلم، أشد ما يكرهه منهم أن ينزلوه منزلة كسرى وقيصر، فيبالغوا في تعظيمه ويشتطوا في تقديره، فقد دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فأصابته رعدة من هيبته فقال “هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد” وكان صلى الله عليه وسلم، يسأل عن أخبارهم ويتفقد أحوالهم، ويدعو لغائبهم، ويزور مريضهم ويشيع جنائزهم، ويصلي عليهم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة أقبل عليهم بوجهه فقال “هل فيكم مريضا فأعوده؟ فإن قالوا لا، قال، هل فيكم جنازة أتبعها؟
فإن قالوا لا، قال من رأى منكم رؤيا فليقصها علينا؟ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “مثلي كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، وقد جعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها قال، فذلكم مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، هلم عن النار فتغلبوني تقحمون فيها ” رواه البخارى مسلم، وفى رواية أخرى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ” إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها فجعل الرجل ينزعهن ويغلبنه يتقحمن فيها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وهم يقتحمون فيها” رواه البخارى، فشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم تساقط العصاة في نار الآخرة بجهلهم عاقبة الشهوات بتهافت الفراش في نار الدنيا بسبب جهلها وعدم تمييزها لما تقصد إليه، فهي تعتقد نفع النار وهي سبب هلاكها.