دين ودنيا

وقفه مع سيف الله المسلول ” الجزء الخامس عشر “

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الخامس عشر مع سيف الله المسلول، وقد توقفنا معه فى غزوة مؤتة، وقد شهد قادة الأعداء قبل الأصدقاء أن تاريخ الحروب لم يسجل مثلها إذ كان يقاتل وهو يحتال للخلوص بالجيش من هذا المأزق المتضايق، وقتال الانسحاب شاق ومرهق، لاسيما وخالد لا يريد إشعار الروم بالحفاظ على الجيش وسحبه، ودخل الليل على المتحاربين فتوقف القتال، فأعاد خالد تنظيم قواته القليلة، فجعل مقدمته ساقته، وساقته مقدمته، وميمنته ميسرته، وميسرته ميمنته، فأنكر الأعداء ما كانوا يعرفون من رايات وهيئة المسلمين وقالوا قد جاءهم مدد، فرعبوا، وكان هدف خالد مناوشتهم وإلحاق الخسائر بهم دون إدخال المسلمين في حرب عامة معهم تكون خطرا عليهم، واكتفى بذلك، ثم آثر الانصراف بمن معه، وهذا العمل من خالد بن الوليد.

جعل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يسميه سيف الله، ويطلق على الغزوة فتحا، حيث قال عليه الصلاة والسلام “ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم” رواه البخارى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعدل به وبعمرو بن العاص في الحرب أحدا منذ أسلما وقد أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال “نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد” رواه أحمد والحاكم، وقد أثنى على عقله فقال عليه الصلاة والسلام “قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير” وهذا العقل الذي مُدح به خالد صنع الأعاجيب في الحروب، وأبرز العبقريات في الشدائد، فكان رضي الله عنه لا ينام ولا ينيم إلا على تعبئة، ولا يخفى عليه من أمر عدوه شيء، ومن عجائب ذكائه ودهائه في فتح الأنبار أن العدو حفروا خندقا يمنع المسلمين الوصول إليهم.

فما كان من خالد رضي الله عنه إلا أن أمر بالإبل فنحرت، ثم ألقاها في الخندق، وجعلها جسورا في الخندق المحفور، حتى وصل إلى العدو وفتح الأنبار، وقد امتاز خالد رضي الله عنه في قيادة الجيش بحسن التنظيم، وسرعة الحركة التي بهر بها عقول قادة الجيوش، العرب منهم والعجم حيث انتقل بعشرة آلاف من الحيرة في العراق إلى الشام، مخترقا الصحراء التي ليس فيها نقطة ماء إلا ما حمله على ظهور الإبل، وما ابتكره من حمل الماء في بطونها فحبس الإبل عن الماء حتى ظمئت، ثم أوردها عليه حتى ارتوت، ثم قطع شفاهها، فأصبح الماء في بطونها نقيا، ينحرون عددا منها كل يوم فيأكلونها ويشربون ما في بطونها من ماء نقي، كانت المسافة تقارب تسعمائة كيل قطعها خالد بجيش جرّار في مدة لا تتجاوز خمسة أيام.

وإن الواحد منا لو قطع هذه المسافة بعربته لاحتاج أن يرتاح من عناء سفره ولكن خالد بن الوليد وجيشه قطعها على ظهور الإبل تحت شمس الهاجرة، ووسط برد الليل، مع الجوع والعطش والخوف، فلما وصل رأى أمامه جيشا كثيفا من الروم، وجيشا أكثف منه يتجمع قريبا منه، والمجموع مئتان وأربعون ألف مقاتل مدججين بالسلاح، وجيش المسلمين لا يزيد على ستة وأربعين ألف مقاتل، سلاحهم ضعيف، ومنزلهم بعيد، والمدد عنهم منقطع، فما شكا خالد بعد رحلته تعبا، ولا ابتغى راحة بل حمل التبعة كاملة، وبادر إلى العمل، وجمع فصائل الجيش تحت قيادته، ونظمه فأحسن تنظيمه، وعمد إلى الجيش الرومي الأدنى فضربه في أجنادين ضربة أذهبت روعه، وأطارت صوابه، ومزقته شر ممزق، ثم وثب إلى الجيش الآخر في اليرموك.

ويوم اليرموك هو اليوم الأغر في سيرة خالد رضي الله عنه، وهو من أيام الإسلام المعدودات، كسر فيه خالد جيش الروم القوي، وفرق شمله الكثيف، وولى الروم مدبرين، ودخلت الشام في حظيرة الإسلام بعد أن بكاها هرقل الروم وهو يقول “عليكى السلام، سلاما لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومي أبدا إلا خائفا” فأين خالد وجيشه يرون الروم تصول وتجول في أرض الله، وتأمر وتنهى، وتعاهد وتغدر، وتقاطع من تشاء، وتضرب من تشاء متى تشاء، بكل أمن واستعلاء، وتغطرس وكبرياء ولا يمنعها أحد، بعد أن أضاع الخلف كثيرا مما كان عليه السلف، فالله المستعان، ولقد خاض الصحابي الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه الكثير من المعارك التي حقَق فيها انتصارات عظيمة حتى قبل أن يدخل في الإسلام.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock