وقفه مع الأعمال ما بين الصدق والباطل” الجزء الأول”
إعداد / محمـــد الدكـــرورى
إن الأعمال التي يقوم بها المراءون ولو شيدوا مساجد وطبعوا كتبا وعملوا صدقات، إذا كانوا يقصدون الرياء فإنها أعمال كذب وليست بصدق، وقد يكون الكذب في الحركات التعبيرية، كإشارات اليد والعين، والحاجب والرأس، فإن كانت مطابقة للواقع فهى صدق وإن كانت مخالفة فهي كذب، فلو سئل إنسان مثلا هل أودع فلان عندك مالا؟ فهز برأسه نافيا دون أن يتكلم، وقد أودع صاحبه عنده المال فعلا، فإن هذه الحركة كذب، وإن من مجالات الصدق أيضا هو الصدق في النية والإرادة وهو الإخلاص في قصة أصحاب الغار الثلاثة، ولنعلم أن أول من تسعّر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، وهم عالم وقارئ ومجاهد، رواه الترمذى، لأنهم ما أرادوا وجه الله، أما الصادقون في النية والعمل، الذين يصدقون الله تعالى فإن الله يصدقهم ويصدّقهم، ويأتي لهم بالنتائج التي يحبها، ومن الأمثلة التي وردت في السنة ما جاء في حديث شداد بن الهاد “أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فآمن به واتبعه.
ثم قال “أهاجر معك، فأوصى الرسول صلى الله عليه وسلم، به بعض أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها شيئا، فقسم وقسم للأعرابى، فأعطى أصحابه ما قسم له لكي يوصلوه إلى الأعرابي، وكان يرعى ظهرهم ذلك الأعرابى المسلم، فلما جاءهم دفعوا إليه نصيبه، فقال ما هذا؟ قالوا قسم لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ما هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم، قسمته لك قال ما على هذا تبعتك ولكن اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا، وأشار إلى حلقه، بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال النبى صلى الله عليه وسلم، إن تصدق الله يصدقك، إن كانت فعلا هذه نيتك صدقت الله، فالله يصدقك، فلبثوا قليلا ثم نهضوا فى قتال العدو فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قد أصابه سهم حيث أشار، في نفس المكان الذى أشار إليه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم، أهو هو؟ قالوا نعم، فقال صلى الله عليه وسلم، صدق الله فصدقه ثم كفّنه النبي صلى الله عليه وسلم، فى جبته.
ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته ” اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا، أنا شهيد على ذلك” رواه النسائي، وكذلك الصدق يكون فيما يريد العبد أن يعزم عليه في المستقبل كما هو حال هذا الصحابي، فبعض الناس يقول إن آتاني الله مالا لأتصدقن ولأفعلن، هذه عزيمة لشيء في المستقبل، وقد تكون حقا، وكذلك فإن الصدق يكون فى الأحوال كلها، وهذه رتبة الصديقين الذين يصدقون في الأقوال والأعمال والنيات والعزائم، وإن الصدق له دواع كثيرة منها، العقل السليم، فإن العقل الصحيح يدفع إلى الصدق، وكذلك منها الشرع المؤكد، وهى الفطرة التي فطر الله الناس عليها والعقول السليمة تحب الصدق، وتميل إليه، وتنفر من الكذب، والدين يرد فيصدق العقل الصحيح، فلا شك أن الدين ورد باتباع الصدق وحظر الكذب، لكن الدين يزيد أشياء على الفطرة، والفطرة السليمة لا تعطي التفصيلات، لكن تميل إلى الحق، فالعقل قد يقول بجواز الكذب إذا كان فيه مصلحة أو لدفع مضرة.
لكن يأتي الدين فيقول إن الكذب كله حرام لا يجوز، إلا في حال الضرورة والقلب مطمئن بالإيمان، وأيضا منها المروءة فهى خلق مانع من الأخلاق المشينة كالكذب، ومنها حب الاشتهار بالصدق، إذن، الصدق عادة إذا كان الرجل لا زال يصدق ويتحرى الصدق يكون الصدق له في النهاية سجية وعادة ويكون سهلا، أما في أول الأمر فيكون صعبا يحتاج إلى مجاهدة، لأن النفس أمّارة بالسوء، تقول اكذب فالكذب فيه منفعة، اكذب فالكذب يرفع عنك المضرة ونحو ذلك، ولكن إذا جاهد العبد نفسه فإنه يصل إلى مرتبة الصدق، وكذلك فإن للصدق علامات، ومنها اطمئنان القلب له، فيحدثك الشخص أحيانا بحديث فترتاح إليه نفسك وتطمئن، كما أن من علامات الكذب حصول الريبة والشك، يخالج نفسك الشعور بأن هذا ليس بصحيح وهذا المعنى موجود في حديث الترمذى الذى رواه الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ” الصدق طمأنينة والكذب ريبة “رواه أحمد، والترمذى.
فلو قال واحد كيف نستدل على الصدق؟ نقول من علامات الصدق أن تطمئن نفسك للكلام، ومن علامات الكذب أن لا تطمئن نفسك للكلام، وهذه نفس المؤمن، أما نفس الإنسان العاصى قد تطمئن للكذب وتشك في الصدق، ومنها كتمان المصائب والطاعات، وكراهة اطلاع الخلق على ذلك، فهو يصبر لله على الطاعة وعلى المكروه، ونحن في موضوع الصدق لنا الظاهر، قد يخبرك أشخاص بأشياء وأنت لا تدرى عن حقيقتها فلك ظاهر حالهم، فإن كان الذى يظهر لك من حاله الصدق فاقبل كلامه، وإن كان الذي يظهر لك منه الكذب والفسق والفجور فاتهمه، وقد روى الإمام البخارى رحمه الله، عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال “إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الوحى يفضح الكذابين، وإن الوحى قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، ومن أظهر لنا سوءا من كان حاله السوء والفحش والفجور، لم نؤمنه ولم نصدقه.