دين ودنيا

وقفه مع أمراض القلوب ” الجزء الثامن “

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الثامن مع أمراض القلوب، ويخبرنا عبدالله بن جعفر رضي الله عنه عن قصة ذلك الجمل، فيقول دخل النبي صلى الله عليه وسلم حائطا لرجل من الأنصار، فإذا فيه ناضح له، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح ذفراه وسراته، فسكن، فقال “من رب هذا الجمل؟” فجاء شاب من الأنصار، فقال أنا، فقال “ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكاك إليّ، وزعم أنك تجيعه وتدئبه” أى تتعبه وتشقيه، إنه قلب رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الذي عرَفت المخلوقات بفطرتها حبّه وعطفه ورحمته، فهفت إليه ليمنحها من حبّه، ويزيل عنها الهم والحزن والرهق، هذه حُمّرة تحلق فوق رأسه، ترى لماذا تفعل ذلك؟ يكشف لنا ذلك عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فيقول “كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، ومررنا بشجرة فيها فرخا حُمّرة، فأخذناهما، قال فجاءت الحُمّرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تصيح.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم “من فجع هذه بفرخيها؟ قال فقلنا نحن، قال “فردوهما” فهو صلى الله عليه وسلم قلب يعطف على جذع نخلة يابس، ويعلن حبّه لجبل صلد، ويستمع شكاية الجمل، وهو يمسح على سنامه وأذنيه، ويرفع المظلمة عن طائر، فإذا كان هذا حبه لهذه المخلوقات، فكيف يكون حبّه لإنسان له جنان؟ وكيف سيكون حبه لولده وزوجه وقرابته وأصحابه؟ ومن هنا يجب على المسلم أن يكون همه لله وفي ذات الله، وهذا مقام رفيع، وأن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعا أشهد من شح البخيل بماله، وأن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أكثر من اهتمامه بالعمل ذاته وهذه نقطة مهمة جدا، فيجب أن يكون اهتمام الإنسان بتصحيح العمل كبيرا في تصحيح القصد، وتحقيق المتابعة، وتحقيق العبودية في العمل فإن هذا هو الغاية من العمل فهذه علامات لسلامة القلب وصحته، وإن من علامات مرض القلب وشقاوته أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، فهل نتألم نحن لجراحات قلوبنا، وما نقترفه من معاص وآثام في الليل والنهار؟

وهل نندم ونعزم على التوبة كلما أذنبنا؟ وهل آلمنا ما نراه في مجتمعنا من معاصى ومنكرات؟ وهل عملنا على تغييرها ما استطعنا، وهذا أمر لا شك عظيم فإن القلب الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا في نفسه ولا في مجتمعه قلب يحتاج صاحبه إلى تدارك نفسه قبل فوات الأوان، وكذلك فأنه يجد لذة في المعصية، وراحة بعد عملها وإنما حال المؤمن إذا عصى الله أن يندم ويستغفر ويتحسر على ما فات، ويسارع في التوبة إلى الله، وهناك من الناس للأسف من ينطبق عليه كلام ابن القيم هذا، فبعض مشاهدي الأفلام نجده يجد لذة في مشاهدتها، ولا تكاد تفارقه تلك اللذة لمدة طويلة، وكذلك نجد من متابعي المباريات من يجد لذة في مشاهدتها وحضورها، ولا تفارقه النشوة لفترة خاصة إذا فاز فريقه فهل نعي بعد ذلك خطورة هذا الأمر؟ فأنه يقدم الأدنى على الأعلى، ويهتم بالتوافه على حساب معالي الأمور، فماذا نقول عن بعض المسلمين ممن أصبح لا يهتم بحال إخوانه وشئون أمته، بينما يعرف من التوافه أكثر مما يعرف عن أمور دينه.

وأخبار علماء الإسلام وأئمته، وكم يتأسف الإنسان على أموال كثير من شبابنا ممن أغرم بحب الرياضة والفن، ويهتم لها ويحزن ويغتم، أكثر مما يهتم لقضايا إخوانه المسلمين، فهل هذا قلبه سليم؟ بل نقول لهذا أدرك قلبك فهو على شفا هلكة، أو أنه يكره الحق ويضيق صدره به، وهذا بداية طريق النفاق، بل غايته، أو أنه يجد وحشة من الصالحين، ويأنس بالعصاة والمذنبين، فتجد من الناس من لا يطيق الجلوس مع الصالحين، ولا يأنس بهم، بل يستهزئ بهم ومجالسهم، ولا ينشرح صدره إلا في مجالسة أهل السوء وأرباب المنكرات، ولا شك أن هذا دليل على ما في قلب صاحبه من فساد ومرض، أو قبوله الشبهة، وتأثره بها، وحبه للجدل، وعزوفه عن قراءة القرآن، أو الخوف من غير الله، ولذلك يقول الإمام أحمد “لو صححت قلبك لم تخف أحدا” وهذا العز بن عبد السلام يتقدم أمام أحد الملوك الطغاة، ويتكلم عليه بكلام شديد، فلما مضى قال له الناس “أما خفت يا إمام” فقال “تصورت عظمة الله، فأصبح عندي كالهر”

والآن نرى من الناس من يخاف من بعض الناس أكثر من خوفه من الله، وهذا لا شك دخن في قلب صاحبه، والعاقل خصيم نفسه، أو وجود العشق في قلبه، فقال شيخ الإسلام “وما يبتلى بالعشق أحد إلا لنقص توحيده وإيمانه، وإلا فالقلب المنيب فيه صارفان يصرفانه عن العشق، إنابته إلى الله ومحبته له، وخوفه من الله” أو أنه لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا ولا يتأثر بموعظة، وقد نسب الله عز وجل الإثم إلى القلب، فقال عز وجل كما جاء فى سورة البقرة ” ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبة” فالإثم جامع لمطلق الذنب الذي يتدرج فيه القلب، من عموم المعاصي صغائر وكبائر، حتى يهوى به إلى الشرك الأكبر، فيختم أو يطبع عليه، وقد أوضحها ابن القيم مسلسلة، فقال “وأول ما يطرق القلب الخطرة، فإن دفعها استراح مما بعدها، وإن لم يدفعها قَويت، فصارت وسوسة، فكان دفعها أصعب، فإن بادر ودفعها وإلا قويت وصارت شهوة، فإن عالجها وإلا صارت إرادة، فإن عالجها وإلا صارت عزيمة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock