دين ودنيا

وقفه مع شهر رمضان ” الجزء السابع “

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

نكمل الجزء السابع مع شهر رمضان، وإن المؤمنون الصادقون المُلهمون، الذين جمعوا بين الخوف الرجاء، والرغبة والرهبة، وتوسطوا واعتدلوا يوم شذ غيرهم واغتر، إنهم رجال مؤمنون ونساء مؤمنات عرفوا الطريق، وأنار لهم الله تعالى بصيرتهم على هدى منه ليسلكوا مسالك النجاة، فيعبدون ربهم فى كل الشهور، معتبرين رمضان محطة اختصها الله تعالى لزيادة الفضل، ومضاعفة الأجر، وهم على يقين أن الثوابت من العبادات لا تتغير بعد رمضان كالصلاة والزكاة والحج وصوم النوافل والصدقات والدعاء وسائر أنواع البر والحسنات، ويبقى الأمر الثابت من الله تعالى هو ثابت التوبة، فقال سبحانه وتعالى كما جاء فى سورة النور ” وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون” ويؤكد ذلك فعل المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم فيقول ” يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة” رواه مسلم، والكيّس العاقل من انتفع بما سمع وعمل بما عمل واستقام كما أمر.

ويقول النبى صلى الله عليه وسلم”إن ربكم يقول ‏كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والصوم لي وأنا أجزي به” وفي رواية ابن خزيمة “كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به” ويكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة، فتكون الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يضاعفه الله عز وجل أضعافا كثيرة بغير حصر عدد، فإن الصيام من الصبر، والصبر ثلاثة أنواع صبر على طاعة الله, وصبر على ما حرّم الله, وصبر على الأقدار المؤلمة وتجتمع الثلاثة في الصوم، فإن فيه صبرا على طاعة الله، وصبرا على ما حرّم الله على الصائم من شهوات، وصبرا على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع، والعطش، وضعف النفس والبدن، وهذا الألم الناشئ من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه، وخصوصا ألم الصيام لأنه من الصبر ولقد قال تعالى فى سورة الزمر ” إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير خساب”

فالصوم مدرسة يتعلم فيها الإنسان الصبر، والصبر كما نعلم أنه من أفضل الأخلاق التي يتخلق بها المسلم، وقد أمر الله تعالى المسلمين بالصبر في كل الأوقات، وعلى أى الأحوال، كما قال تعالى فى سورة البقرة ” واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين” وقد فسر الصبر بالصوم لأن الصبر فى الأصل هو الحبس، من ذلك قولهم “مات فلان صبرا” أى محبوسا فى قيده، ففى شهر رمضان حبس النفس عن المأكل، والمشرب، والملذات، ولذلك سمّاه النبى صلى الله عليه وسلم بشهر الصبر، فعن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر” وفى قوله تعالى عن الصيام “أنا أجزى به” يدل على أن الكريم إذا قال أنا أتولى الإعطاء بنفسى، كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه، ويجب علينا فى شهر بداية شهر رمضان تهيئة مَن في البيت من زوجة وأولاد لهذا الشهر الكريم، وكيفية الاستعداد لهذا الضيف الكريم، ووضع برنامج لذلك.

وممارسة بعض من التهيئة الإيمانية السابقة مع الأسرة، وعقد لقاء إيماني مع الأسرة يكون يوميا بقدر المستطاع، وأيضا تهيئة العزيمة بالعزم على فتح صفحة جديدة مع الله، وجعل أيام رمضان غير أيامنا العادية، وعمارة بيوت الله، وشهود الصلوات كلها في جماعة، وإحياء ما مات من سنن العبادات، مثل المكث في المسجد بعد الفجر حتى شروق الشمس، المبادرة إلى الصفوف الأولى وقبل الأذان بنية الاعتكاف، وغير ذلك، ونظافة الصوم مما يمكن أن يلحق به من اللغو والرفث، وسلامة الصدر، والعمل الصالح فى رمضان، واستحضار أكثر من نية من الآن، ومن تلك النيات هى نية التوبة إلى الله، ونية فتح صفحة جديدة مع الله، ونية تصحيح السلوك وتقويم الأخلاق، ونية الصوم الخالص لله، ونية ختم القرآن أكثر من مرة، ونية قيام الليل والتهجد، ونية الإكثار من النوافل، ونية طلب العلم، ونية نشر الدعوة بين الناس، ونية السعى إلى قضاء حوائج الناس، ونية العمل لدين الله ونصرته، ونية العمرة، ونية الجهاد بالمال، وغير ذلك من اعمال الخير والبر.

وأيضا هناك التهيئة الجهادية وهي تحقيق معنى مجاهدا لنفسه وذلك من خلال منع النفس من بعض ما ترغب فيه من ترف العيش، والزهد في الدنيا وما عند الناس، وعدم التورط فى الكماليات من مأكل ومشرب وملبس، كما يفعل العامة عند قدوم رمضان، والتدريب على جهاد اللسان فلا يرفث، وجهاد البطن فلا يستذل، وجهاد الشهوة فلا تتحكم، وجهاد النفس فلا تطغى، وجهاد الشيطان فلا يمرح، وأيضا حمل النفس على أن تعيش حياة المجاهدين، وتدريبها على قوة التحمل والصبر على المشاق، من خلال التربية الجهادية المعهودة، وأيضا عمل ورد محاسبة يومى على بنود التهيئة الرمضانية، وقد قال صلى الله عليه وسلم “كل لهو باطل واستثنى منه أمورا من المباحات، من ملاعبة الزوجة، والرماية، وتأديب الفرس، واللهو الباطل ما أشغل عن ذكر الله، وقد أعد الله تعالى لكل طاعة يقوم به الإنسان جزاء، وجزاء الصوم الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”

ومما روى في فضل الصيام عن سعيد بن أوس الأنصارى عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال” إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطرق فنادوا اغدوا يا معشر المسلمين إلى رب كريم يمن بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أمرتم بقيام الليل فقتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، وأطعتم ربكم فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلوا نادى مناد ألا إن ربكم قد غفر لكم فارجعوا راشدين إلى رحالكم فهو يوم الجائزة ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة” رواه الطبرانى فى الكبير وضعفه الألبانى، وهكذا فإن الصوم عبادة من أجلّ العبادات، وقربة من أشرف القربات، و طاعة مباركة، لها آثارها العظيمة والكثيرة، والعاجلة والآجلة، من تزكية النفوس، وإصلاح القلوب، وحفظ الجوارح من الفتن والشرور، وتهذيب الأخلاق، وفيها من الإعانة على تحصيل الأجور العظيمة، وتكفير السيئات المهلكة، والفوز بأعلى الدرجات، وإن
التكاليف الشرعية شاقة على الأبدان، مفرحة للنفوس وهذه القاعدة تنطبق على كل العبادات.

بل على كل الطاعات، بل على كل استجابة لله، والعبادات ذات كلفة، سميت تكاليف لأنها في الأصل تتناقض مع الطبع، فالإنسان يحب أن يبقى نائما، والتكليف أن يستيقظ، ويحب أن يمتع عينيه بمحاسن النساء، والتكليف أن يغض البصر، ويحب أن يخوض فى فضائح الناس، والتكليف أن يسكت، ويحب أن يأخذ المال، والتكليف أن ينفقه، فالتكاليف كلها مناقضة للطبع، لكنها مطابقة للفطرة، فترتاح نفسك إذا أديت الفرائض، وترتاح نفسك إذا كنت صادقا، وترتاح نفسك إذا كنت أمينا، ترتاح نفسك إذا أعنت أخاك، وإذا رحمته، وإذا يسرت عليه، فكل أوامر الدين بعباداته ومعاملاته وفضائله إن طبقتها ارتاحت نفسك، فقال تعالى كما جاء فى سورة الروم ” فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها” أى هذا المنهج الإلهى يتطابق بأدق تفاصيله مع بنية النفس، فإن التكاليف تتناقض مع جسم الإنسان، مع طبعه، مع غرائزه، مع شهواته، لكنها تتوافق مع نفسه، ذاته التي بين جنبيه، إذن الطاعات فيها مشقة أحيانا، فيها تكليف، فيها تناقض مع جسم الإنسان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock