دين ودنيا

الصحابي الجليل معاذ بن جبل ” الجزء الثالث “

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الثالث مع الصحابى الجليل معاذ بن جبل، وقد توقفنا عند عمواس وهي ضيعة جليلة على ستة أميال من الرملة على طريق بيت المقدس، ومنها كان ابتداء الطاعون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم فشا فى أرض الشام فمات فيه خلق كثير لا يحصى من الصحابة رضي الله عنه، ومن غيرهم، وقد فتحت بلدة عمواس في خلافة أبي بكر الصديق، على يد عمرو بن العاص فى السنة الثالثة عشر من الهجرة تقريبا ويذكر أن المسلمين اتخذوا قرية عمواس كمقدمة للجيوش التي حاصرت بيت المقدس، وظلت موضعا للمسلمين حتى بناء عبد الملك بن مروان لمدينة الرملة، وخلال الفتح الإسلامي للشام، توجَّه عمرو بن العاص فى خلافة أبي بكر الصديق، وفتح العديد من البلدان في الشام منها بلدة عمواس، وبعد تولى عمر بن الخطاب الخلافة بعث أبا عبيدة بن الجراح لفتح بيت المقدس، وتسلم أبو عبيدة فور وصوله قيادة القوات الإسلامية، وارتفعت معنويات الجند، وسقطت المدن المحيطة ببيت المقدس.

وانسحب الأرطبون مستخفيا في قوَّة من الجند إلى مصر وتسلم بطريرك المدينة العجوز صفرونيوس مقاليد الأمور، فعرض عليه أبو عبيدة الإسلام أو الجزية أو الحرب، فاختار البطريرك استسلام المدينة على أن يسلمها لعمر شخصيا، وأتى عمر إلى بيت المقدس وأعطى أهلها الأمان على أنفسهم وأموالهم وبيوتهم وكنائسهم وأديرتهم وجميع دور عبادتهم وهو ما يعرف بالعهدة العمرية، وقد سار يزيد بن أبي سفيان بصحبة أخيه معاوية إلى قيسارية بناء على أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فضربا الحصار عليها، وأثناء ذلك أصيب يزيد بالطاعون، فاستخلف عليها معاوية وعاد هو إلى دمشق، وكان عمر بن الخطاب حينئذ ببلدة تسمى سرغ، وكان يهم بدخول الشام وقتها، فلقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، فقال عمر ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع فى الشام، فاختلفوا فقال بعضهم قد خرجت لأمر ولا نرجع أن ترجع عنه.

وقال بعضهم معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال ارتفعوا عني، ثم قال ادعوا لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال ارتفعوا عنى، ثم قال ادعوا لى من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوهم فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر فى الناس إني مصبّح على ظهر فأصبحوا عليه، قال أبو عبيدة بن الجراح أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر لو غيرُك قالها يا أبا عبيدة، نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيتَ لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيِّبا في بعض حاجته، فقال إن عندى في هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ” إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه”

فحمد عمر الله، ثم انصرف، وقد حاول عمر بعدها أن يخرج أبا عبيدة من الشام، فكتب إلى أبي عبيدة كتابا يطلب منه أن يأتي إليه في المدينة، قال فيه “أن سلام عليك، أما بعد فإنه قد عُرضت لي حاجة أريد أن أشافهك فيها، فعزمت عليك إذا نظرت فى كتابي ألا تضعه من يدك حتى تقبل إليَّ، فعرف أبو عبيدة إنما أراد أن يستخرجه من الوباء، فقال “يغفر الله لأمير المؤمنين” ثم كتب إليه “يا أمير المؤمنين، إني قد عرفت حاجتك إليَّ، وإني فى جند من المسلمين، لا أجد بنفسى رغبة عنهم، فلست أريد فراقَهم حتى يقضى الله فيَّ وفيهم أمره وقضاءه، فحللني من عزمتك يا أمير المؤمنين ودعني في جندى” فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقال الناس ” يا أمير المؤمنين أمات أبو عبيدة؟ قال “لا، وكأن قد” وروى الطبرى أنه لمَّا اشتد الطاعون قام أبو عبيدة في الناس خطيبا فقال “أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم له منه حظه، ثم كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة.

فيما بعد أن يرتحل بالمسلمين من الأرض الغمقة التى تكثر فيها المياه والمستنقعات إلى أرض نزهة عالية، قال عمر “أما بعد، فإنك قد أنزلت الناس أرضا غمقة فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة” فلما أتاه كتابه دعا أبا موسى الأشعرى فقال ” يا أبا موسى، إن كتاب أمير المؤمنين قد جاء بما ترى، فاخرج فارتد للناس منزلا حتى أَتبعك بهم، فرجع أبو موسى إلى منزله فوجد زوجته قد أصيبت بالوباء، فرجع أبو موسى إلى أبى عبيدة وقال له والله لقد كان فى أهلى حدث، فقال أبو عبيدة لعل صاحبتك أصيبت، قال أبو موسى نعم، فأمر أبو عبيدة ببعيره فرحل له، فلما وضع رجله في غرزه أصيب أبو عبيدة بالطاعون، وقال والله لقد أصبت، ثم سار بالناس حتى نزل الجابية، وعن سعيد المقبرى قال لما أصيب أبو عبيدة قالوا لمعاذ بن جبل صلى بالناس، فصلى معاذ بهم، ثم خطب فقال “أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذ يسأل الله تعالى أن يقسم لآل معاذ منه حظهم”

ثم أصيب عبد الرحمن بن معاذ بن جبل بالطاعون، وبعده أصيب معاذ بن جبل، وروى ابن المبارك عن الحارث بن عميرة أنه قَال أخذ بيدي معاذ بن جبل، فأرسله إِلى أبى عبيدة، فسأله كيف هو؟ وقد طعنا، فأراه أبو عبيدة طعنة خرجت فى كفه، فتكاثر شأنها في نفس الحارث، وفرق منها حين رآها، فأقسم أبو عبيدة بالله ما يحب أن له مكانها حمر النعم، ولمّا مات معاذ بن جبل استخلف أبو عبيدة على الشام عمرو بن العاص، فقام عمرو في الناس خطيبا، فقال ” أيها الناس، هذا الطاعون رجس، فتفرقوا عنه فى هذه الشعاب وفى هذه الأودية، فقال شرحبيل بن حسنة صحبت رسول الله وعمرو أضل من حمار أهله، ولكنه رحمة ربكم ودعوة نبيكم ووفاة الصالحين قبلكم، يشير شرحبيل إلى حديث نبوى بمعنى ما قال، وفي تاريخ الطبري أن الذى راد عمرو، هو أبو وائلة الهذلى، وأن عمرو قال والله ما أرد عليك ما تقول، وايم الله لا نقيم عليه، ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا، ورفع الطاعون عنهم، قال فبلغ ذلك عمر بن الخطاب.

من رأى عمرو بن العاص، فاستحسنه، وروى عن أبي موسى أنه قال إن هذا الطاعون قد وقع، فمن أراد أن يتنزه عنه فليفعل، ثم مات أبو عبيدة بن الجراح، وكذلك مات يزيد بن أبي سفيان الذى كان ذاهبا مع أخيه معاوية إلى قيسارية لحصارها قبل انتشار الطاعون، وأثناء ذلك أصيب يزيد بالطاعون، فاستخلف عليها معاوية وعاد هو إلى دمشق، فمات هناك، ووصل إلى عمر خبر وفاة أبي عبيدة ويزيد بن أبى سفيان، فأمَّر معاوية بن أبى سفيان على جند دمشق وخراجها، وأمَّر شرحبيل بن حسنة على جند الأردن وخراجها، وبعد خطبة عمرو بن العاص وأبى موسى الأشعري ونصيحتهم الناس أن يتفرقوا إلى الشعاب والأودية زال الطاعون ولكن كانت حالة المسلمين وجيوشهم في وضع قلق، بسبب كثرة الوفيات بين المسلمين، حتى اختار الناس في المواريث من كثير الموتى، وكذلك طمع أعداء المسلمين في الكر عليهم، واستغلال انشغالهم بالوباء لذلك قرر عمر أن يذهب إلى الشام بنفسه عن طريق أيلة بعد أن انقضى الطاعون.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock