وقفه مع الشهادة من أجل الوطن ” الجزء الثانى عشر “

إعداد / محمـــد الدكــــرورى
ونكمل الجزء الثانى عشر مع الشهادة من أجل الوطن، وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “إن أول ثلة تدخل الجنة الفقراء المهاجرون، الذين تتقى بهم المكاره، إذا أمروا سمعوا وأطاعوا، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض له حتى يموت وهي في صدره، وإن الله تعالى يدعو يوم القيامة الجنة، فتأتي بزخرفها وريها، فيقول أين عبادى الذين قاتلوا في سبيل الله، وقتلوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي؟ ادخلوا الجنة، فيدخلونها بغير حساب ولا عذاب، فتأتي الملائكة، فيقولون ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار، ونقدس لك من هؤلاء الذين آثَرتهم علينا؟ فيقول الرب تبارك وتعالى هؤلاء الذين قاتلوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي، فتدخل عليهم الملائكة من كل باب سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار” رواه الحاكم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال “إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، تعلق من ثمر الجنة، أو شجر الجنة” رواه الترمذي، ومعنى تعلق أي ترعى من أعالي شجر الجنة، ويقول ابن النحاس في كتابه “مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق” مبينا الحكمة في جعل أرواح الشهداء في أجساد الطيور ذات اللون الأخضر والقناديل المعلقة في ظل العرش “لأن ألطف الألوان اللون الأخضر، وألطف الجمادات الشفافة الزجاج، ولهذا جعل أرواح الشهداء في ألطف الأجساد وهو الطير، واختار ألطف الألوان وهو الأخضر، ويأوي ذلك الطير الأخضر إلى ألطف الجمادات.
وهي القناديل المنورة المفرحة في ظل العرش، لتكمل لها لذة النعيم في جوار الرب الكريم” وعنه رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال ” ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة” رواه الترمذى، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال “الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته” رواه أبو داود، وإن دم الشهيد يجف، لكن قبل أن يجف يكون الله تعالى قد أنعم عليه ووهبه من فضله زوجتيه من الحور العين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال ذكر الشهيد عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال “لا تجف الأرض من دم الشهيد حتى يبتدره زوجتاه، كأنهما ظئران أظلتا أو أضلتا فصيليهما ببراح من الأرض، بيد كل واحدة منهما حلة خير من الدنيا وما فيها” رواه أحمد، ويكرم الشهيد غاية الإكرام حينما يكون من أول من يدخل جنة النعيم، النعيم الدائم الذي لا يزول، فعن أبي هريرة رضى الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إني لأعلم أول ثلاثة يدخلون الجنة، الشهيد، وعبد أدى حق الله وحق مواليه، وفقير عفيف متعفف” رواه أحمد، وإن من فضائل الشهادة هو أن منهم من ينال الفضل العظيم وإن لم يركع لله ركعة واحدة، أحد الصحابة عمرو بن أقيش كان له ربا فى الجاهلية فمات، فلما مات جاء سعد بن معاذ قال لأخته سليه أقاتل حمية أم عصبية؟ فقال بل لله عز وجل، وقصة أخو سلمة بن الأكوع في خيبر قاتل بشدة فارتد عليه سيفه، فتكلم الصحابة فيه، لأن سيفه ارتد عليه هل يعتبر شهيدا؟ هل مات شهيدا في سبيل الله؟ فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
قال” كذبوا، مات جاهدا مجاهدا فله أجره مرتين” رواه البخارى ومسلم، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقفون تلك المنح والعطايا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيَتسابقون إلى ميدان الجهاد، ويتسابقون إلى الشهادة في سبيل الله، ففي معركة بدر وحين التقى المسلمون بالمشركين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض” فقال عمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض، قال “نعم”، قال بخ بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما يحملك على قولك بخ بخ؟” قال لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”فإنك من أهلها” فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال “لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل” رواه مسلم، بل إن من جاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم حين يسمع عن الجنة، وأنها تحت ظلال السيوف يسرع نحو العدو مقاتلا في سبيل الله، فعن أبي بكر بن عبدالله بن قيس عن أبيه قال سمعت أبي وهو بحضرة العدو يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم” إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف” فقام رجل رث الهيئة، فقال يا أبا موسى آنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال نعم، قال فرجع إلى أصحابه، فقال “أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه، فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل” رواه مسلم، وعن أنس بن مالك رضى الله عنه، أن رجلا أسود أتى النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال يا رسول الله، إني رجل أسود، منتن الريح، قبيح الوجه، لا مال لي، فإن أنا قاتلت هؤلاء حتى أقتل، فأين أنا؟ قال في الجنة، فقاتل حتى قتل، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال “قد بيض الله وجهك، وطيب ريحك، وأكثر مالك، وقال لهذا أو لغيره، لقد رأيت زوجته من الحور العين، نازعته جبة له من صوف، تَدخل بينه وبين جبته” رواه الحاكم، فعلينا أن نجتهد ونخلص في طلب الشهادة حتى يعطينا الله عز وجل أجرها، فعن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه” رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وإن الشهداء الذين ذهبوا إلى الله عز وجل، على اختلاف أماكنهم ودرجاتهم، لهم نماذج في التاريخ القديم والحديث، وما أحوج الأمة الإسلامية إلى هذه النماذج، ما أحوجها أن تعرف من رجالها الكبار، ومن أبطالها الذين تأخذ منهم الأسوة، ذلك لأن أعداء الإسلام ما طمعوا فيه، ولا نالوا منه، ولا تجرؤوا عليه، إلا لأن أمتنا ثشبثت بالحياة على الأرض، وأخلدت إلى الهوى والشهوة، وقاتلت على الحطام الفانى، ونافست فيما لا وزن له عند الله، فإن الشهيد لما بذل حياته لله أعطاه الله سبحانه وتعالى حياة أكمل منها عنده في محل قربه وكرامته ” من بذل شيئا لله أعطاه الله خيرا منه” فإن حياة غير الشهيد شوب النغص ممزوج بالغصص، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا، وإن سرّت يوما أحزنت شهورا، أولها مخاوف، وآخرها متالف، أما الشهيد فقتل آخره حياة، ولكن أي حياة؟ غير الشهيد يحيا مع من؟
والشهيد يحيا عند مَن؟ فارق أهل الدنيا الذين يموتون، فمن الله عليه بالحياة عند الحي الذي لا يموت، لما مزّقت أجسادهم في دار الدنيا لله عز وجل فمنّ الله عليهم بحواصل طير خضر، حبست أقدامهم عن السعي فمنّ الله عليهم بأن يسرحوا في الجنة حيث شاؤوا، فإنه لما ترك المجاهد الفراش والأزواج جاد عليه الملك الوهاب بكثرة الأزواج من الحور العين والجزاء عند الله تعالى من جنس العمل، فاز بوصال مَن خلقت من النور، ونشأت في ظلال القصور مع الولدان والحور، في دار النعيم والسرور، والله لا يجف دم الشهيد حتى تلقاه، وتستمتع بشهود نورها عيناه، حوراء عيناء، جميلة حسناء، بكر عذراء، كأنها الياقوت لم يطمثها إنس قبله ولا جان، كلامها رخيم، وقدها قويم، وشعرها بهيم، وقدرها عظيم، وجفنها فاتر، وحسنها باهر، وجمالها زاهر، ودلالها ظاهر، كحيل طرفها، جميل ظرفها، عذب نطقها، عجب خلقها، حسن خلقها، زاهية الحلي، بهية الحلل، كثيرة الوداد، عديمة الملل، قد قصرت طرفها عليك، فلم تنظر سواك، وتحببت إليك بما وافق هواك، لو برز ظفرها لطمس بدر التمام، ولو ظهر سوارها ليلا لم يبق في الكون ظلام، ولو بدا معصمها لسبى كل الأنام، ولو اطلعت بين السماء والأرض لملأ ريحا ما بينهما، كلما نظرت إليها ازدادت في عينيك حسنا، وكلما جالستها زادت إلى ذلك الحسن حسنا، أيجمل بعاقل أن يسمع بهذه ويقعد عن وصالها، كيف وله في الجنة من الحور العين أمثال أمثالها؟ ولا بأس بأن نقول فلان شهيد ما لم يعلم بوجود مانع من ذلك، فقال الإمام البخارى فى “باب لا يقول فلان شهيد”
والظاهر أن هذا محمول على القطع بمآله في الآخرة ونَيله فيها درجة الشهداء، ولهذا أردفه بقوله “قال أبو هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم “الله أعلم بمن يجاهد في سبيله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله” وكذلك قال السندى “قوله فى “باب لا يقول فلان شهيد” أي بالنظر إلى أحوال الآخرة، وأما بالنظر إلى أحكام الدنيا فلا بأس، وإلا يشكل إجراء أحكام الدنيا، ومع هذا فلا يعرف قدر النفس ويعادلها ثمنها إلا من خلقها سبحانه وتعالى، لأنه أعلم بها فقال تعالى ” ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير” وهذا بمعنى أن حياة الذكر الجميل ولسان الصدق في الحب والتذكار الدائم والشعور من الناس بالفضل والمن للشهداء كونهم آثروا الناس عليهم في طلبهم للشهادة في مظانها، فالشهيد بهذا المعنى من أجود الخلق وأكثرهم فضلا وعطاء وأما المعنى الثاني فقد بينه كثير من العلماء والمفسرين حيث قالوا بأن هذه الحياة حقيقية كاملة المعنى ومن فضل الله تعالى عليهم أن لهم منازل من النعيم يوم القيامة حيث لا يفزعون ولا يحيق بهم خوف ولا أذى، فقال الله تعالى ” والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم” وإن من الأنبياء من أذاقه الله تعالى طعم الشهادة كنبي الله زكريا ونبي الله يحيي عليهما السلام وغيرهما كثير من أنبياء بني إسرائيل كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى ” ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق” وأما عن قوله تعالى ” ويقتلون الأنبياء بغير حق” فقد روى ابن جرير رحمه الله من حديث أبي عبيدة رضي الله عنه عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال.
“يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم، وهم الذين ذكر الله عز وجل ويعني قوله سبحانه وتعالى ” إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين يغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم” وروى ابن أبي حاتم رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه قال” قتلت بنو إسرائيل ثلاثمائة نبي من أول النهار وأقاموا سوق بقلهم من آخره” وإن من اختصاص الله تعالى بالفضل لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أنه جمّع له بين أجر الموت وأجر الشهادة، إذ كانت أكلة المرأة الخيبرية تعاوده بالألم كل حين حتى وافاه الأجل بسببها، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت “كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه ” يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت إنقطاع أبهرى من ذلك السم” وإن لفضل الشهادة في سبيل الله تعالى فقد كان يتمناها سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فها هو خالد على فراش الموت يقول ” ما من موضع شبر في جسدى إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح، وما من ليلة عندي يهدى إليّ فيها عروس أحب إليّ من ليلة شاتية أصبح فيها العدو ثم ها أنا ذا أموت على فراشي موتة البعير فلا نامت أعين الجبناء ” ومن الذين طلبوا الشهادة بصدق ذلك الرجل الذى يسمى النجدى.