دين ودنيا

وقفه مع شهر شعبان ” الجزء الثانى “

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الثانى مع شهر شعبان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا دخل شعبان وعليه بقية من صيام تطوع لم يصمه قضاه في شهر شعبان حتى يستكمل نوافله بالصوم قبل دخول شهر رمضان، كما كان إذا فاته سنن الصلاة أو قيام الليل قضاه فكانت السيدة عائشة حينئذ تغتنم قضاءه لنوافله فتقضي ما عليها من فرض شهر رمضان حينئذ لفطرها فيه بالحيض وكانت في غيره من الشهور مشتغلة بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فيجب التنبه والتنبيه على أن من بقي عليه شيء من رمضان الماضي فيجب عليه صيامه قبل أن يدخل رمضان القادم ولا يجوز التأخير إلى ما بعد رمضان القادم إلا لضرورة، مثل العذر المستمر بين الرمضانين، ومن قدر على القضاء قبل شهر رمضان ولم يفعل فعليه مع القضاء بعده التوبة وإطعام مسكين عن كل يوم، وهو قول الأئمة مالك والشافعي وأحمد، وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من القيام في هذا الشهر الكريم لله تعالى، وكان مع ذلك يعلمنا الأدب الجم فيمن يسكن معنا فى بيوتنا إذا أدرنا طاعة الله، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها “جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلتي، فنام بجواري وتدثر بلحافي ثم قال “تأذنين لي أن أتعبد لربي في تلك الليلة؟ قالت، فقلت يا رسول الله، إني أحبك ولا أحب فراقك، ولكنى أوثر هواك على هوى نفسى” فإنه الخطاب الجميل الذى لابد أن يكون له رد جميل، فأذنت له، فقام صلى الله عليه وسلم قالت فأطال الخروج فخرجت أبحث عنه فوجدته في البقيع بين المقابر ساجدا يقول “اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك،

وبك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، عز جارك، وجل سلطانك، ولا إله غيرك” قالت ولما أن همّ ليختم أسرعت إلى حجرتي، فسلم وجاء وما يزال النفس يتردد في صدري، فقال صلى الله عليه وسلم ما بك يا عائشة؟ أظننتي أن يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم قد خاس بك؟ أي يذهب إلى إحدى الزوجات الأخريات؟ أتعلمين أي ليلة هذه الليلة يا عائشة؟ هذه ليلة النصف من شهر شعبان، وإن الله تبارك وتعالى يتجلى لعباده في هذه الليلة فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشرك أو مشاحن” والمشاحن هو الذي في قلبه نحو أخ من إخوانه المؤمنين شحناء، من بُغض، أو حقد، أو كره، أو حسد، أو ما شابه ذلك، لأن شروط الإيمان كما قال فيها الرحمن كما جاء فى سورة الحجر ” ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين” وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في هذا الشهر المبارك من الدعاء لله، ليعلمنا أن هذا شهر لقبول الدعاء وتحقيق الرجاء، وقد استجاب الله عز وجل له في كل ما دعاه، ومن جملة ذلك هو أن الله تعالى استجاب له صلى الله عليه وسلم في مكة حين دعاه أهلها ليشق القمر، فدعا الله فانشق له القمر بإذن الله، وكان يدعو عندما هاجر إلى المدينة أن يوجهه الله تعالى إلى بيت الله الحرام، وكان يتجه قبلها إلى بيت المقدس، فأجاب الله تعالى دعاه وأمره في ليلة النصف من شعبان أو يومها أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام، واستجاب الله عز وجل له في أمر الشفاعة في أمته وبشّر أمته بأن الله قد قبل شفاعته فيهم، وأنه سيشفع فينا جماعة المسلمين أجمعين.

يوم يجمع الله الناس ليوم لا ريب فيه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم فى أيام هذا الشهر الكريم لأن هذا الشهر نزل من الله الأمر بصيام شهر رمضان بتعليم المسلمين أحكام الصيام وشروط الصيام الصحيحة ومبطلات الصيام، حتى إذا دخل المسلم على عبادة الصيام في شهر رمضان كان يعبد الله عز وجل على علم، لا ينتظر المؤمن حتى يأتي رمضان ثم يقول أتعلم، فإن المؤمن علمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم أولا ثم يعمل بعد أن علم، وقال في ذلك صلى الله عليه وسلم “من عمل بما يعلم ورّثه الله عز وجل ما لم يكن يعلم” وكذلك من فوائد صوم شهر شعبان أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده فيدخل شهر رمضان بقوة ونشاط ، ولما كان شهر شعبان كالمقدمة لشهر رمضان فإنه يكون فيه شيء مما يكون في رمضان من الصيام وقراءة القرآن والصدقة، وقال سلمة بن سهيل كان يقال شهر شعبان شهر القراء، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال هذا شهر القراء، وكان عمرو بن قيس المُلائي إذا دخل شهر شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن، ولقد ثبت علميا أن الجسم في أيام الصوم الأولى يبدأ باستهلاك مخزونه الاحتياطي من الدهون والبروتينات وغيرها، فينتج بسبب ذلك سموما تتدفق في الدم، وهرمون الأدرينالين، قبل أن يتخلص منها الجسم مع الفضلات، مما يؤدي إلى شعور الصائم ببعض الأعراض كالصداع والوهن وسرعة الغضب وانقلاب المزاج.

وقد تصدر منه أفعال غير إرادية، مما قد يضطره لأن يترك الصيام أحيانا، وهذه الأعراض تزول بعد أن تعود نسب الهرمونات إلى وضعها الطبيعي في الدم خلال أيام من بدء الصوم بإذن الله تعالى، وهذا ملاحظ لدى الصائمين، فصيام شهر شعبان ما هو إلا كالتمرين على صيام رمضان، حتى لا يدخل المسلم في صوم رمضان على مشقة وكلفة وحتى يوفقك الله لصيام وقيام رمضان, فعليك أن تدرب نفسك على الصيام والقيام قبله, ليرزقك الله التوفيق والإعانة في شهر رمضان بأذن الله, فالسعيد من وفقه الله لعمل الطاعات في الأوقات والأماكن الفاضلة، والخسران أن يخذلك الله ويثبطك عن العمل الصالح في مثل هذه المواسم، وإن لنا مع شهر شعبان ثلاث وقفات، فالوقفة الأولى وهى مع فضيلة شهر شعبان الكريم، فشهر شعبان شهر فضيل، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يصوم أكثره، ولا يترك من صيام أيامه إلا القليل، والنبي صلى الله عليه وسلم أسوتنا، فلما خص النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشهر بمزيد من العبادة لأنه صلى الله عليه وسلم علم أن لهذا الشهر مكانه خاصه، وهي أنه شهر عاده ما يغفل عنه الناس بين رجب الحرام ورمضان شهر الصيام، وأنه شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله تعالى، والاجتهاد في العبادة في شعبان بمثابة التوطئة للدخول في رمضان والاستعداد لشهر الفريضة، فصوم شعبان مفضل، مرغوب فيه، مضاعف أجره، فقال ابن رجب رحمه الله، وإن صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم، وأفضل التطوع ما كان قريب من رمضان قبله وبعده، وتكون منزلته من الصيام.

بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها وهي تكملة لنقص الفرائض، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده، فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة فكذلك يكون صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بَعُد عنه، وأما عن الوقفة الثانية وهى أن شهر شعبان هو شهر السقى، وهذه مقولة هامة، وهي لأحد سلفنا الصالح وهو أبو بكر البلخي رحمه الله حيث قال رجب شهر الزرع وشعبان شهر السقي للزرع ورمضان شهر حصاد الزرع، فكيف لمن لم يزرع، ولم يسقي زرعه، أن يحصد، وأن ينتج، وهل هو كمن زرع وسقى وانشغل واهتم، فلا يستوي هذا وذاك، ولا يستوى من جاهد نفسه وعلت همته وقويت إرادته، ومن بلغت به الدنيا مبلغ التيه والضياع، فقال الله عز وجل فى كتابه الكريم كما جاء فى سورة العنكبوت ” والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين” فمن بذل وسعه في الحصول على الخير واغتنام الوقت يسر الله له الأجر ،ومن أراد طاعة الله وفقه الله لذلك، ومعنى قوله تعالى ” والذين جاهدوا فينا” أى اجتهد في الوصول إلى الحق، يسر الله له الحق، فقال الله تعالى كما جاء فى سورة الليل ” فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنبسره لليسرى” فالعجل العجل قبل فوات الأجل، فأين هي النية الصالحة؟ وأين هو وردك في القرآن؟ وأين هي العزيمة والإصرار على المنافسة؟ فقد جعل الله الحياة ميدان سباق، فمن حاز قصب السبق حاز رضوان الله، ومن حاز رضوان الله فقد فاز بجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، نعم فإنه سباق شريف نزيه، غايته نبيلة.

ومراده طيب، وهو رضوان الله تبارك وتعالى، وأما عن الوقفة الثالثة فهى حاجتنا إلى التطهير، وأعني بالتطهير وهى التوبة النصوح، فهي هدية من الله عز وجل إلينا أن نتوب فيمح الله عنا ما مضى، يغفر الزلات ويقيل العثرات، ويضاعف الأجور والحسنات، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قَال ” إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى المجلس الواحد مائة مرة، رب اغفر لى وتب على إنك أنت التواب الرحيم ” رواه أبو داود والترمذى، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا حاله مع التوبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو من هو، هو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يتوب في المجلس الواحد مائة مرة، وما هذا إلا ليلفت أنظارنا إلى منزلة التوبة وأهميتها وحاجتنا إليها، لهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم ” كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون” رواه الترمذي ، فمهما حدث من أخطاء، فربنا كبير، يحب عبده التائب، ويفرح به ويغفر له، فنحن بحاجة إلى أن ندخل رمضان ونحن على طهارة تامة من كل الذنوب، ولن يكون هذا إلا بالتوبة النصوح، وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن ليلة النصف من شعبان ؟ وهل لها صلاة خاصة ؟ فأجاب أن ليلة النصف من شعبان ليس فيها حديث صحيح، وكل الأحاديث الواردة فيها ضعيفة أو موضوعة لا أصل لها، وهي ليلة ليس لها خصوصية، لا قراءة ولا صلاة خاصة ولا جماعة، وما قاله بعض العلماء أن لها خصوصية فهو قول ضعيف، فلا يجوز أن تخص بشيء” وأما عن الصيام في آخر شهر شعبان.

فقد ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل “هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا ؟ قال لا، قال صلى الله عليه وسلم فإذا أفطرت فصم يومين” وفي رواية البخارى، قال أظنه يعني رمضان وفي رواية لمسلم “هل صمت من سرر شعبان شيئا ؟ رواه البخارى ومسلم، وقد اختلف في تفسير السرار، والمشهور أنه آخر الشهر، ويقال سرار الشهر بكسر السين وبفتحها وقيل إن الفتح أفصح ، وسمي آخر الشهر سرار لاستسرار القمر فيه، أي لاختفائه، فإن قال قائل قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال “لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين، إلا من كان يصوم صوما فليصمه” رواه البخاري ومسلم، فكيف نجمع بين حديث الحثّ وحديث المنع فالجواب، أنه قال كثير من العلماء وأكثر شراح الحديث “إن هذا الرجل الذى سأله النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن له عادة بصيامه، أو كان قد نذره فلذلك أمره بقضائه” وقيل في المسألة أقوال أخرى، وخلاصة القول أن صيام آخر شعبان له ثلاثة أحوال، أحدها وهو أن يصومه بنية الرمضانية احتياطا لرمضان، فهذا محرم، والثاني وهو أن يصام بنية النذر أو قضاء عن رمضان أو عن كفارة ونحو ذلك ، فجوّزه الجمهور، والثالث وهو أن يصام بنية التطوع المطلق ، فكرهه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بالفطر، ومنهم الحسن، وإن وافق صوما كان يصومه، ورخص فيه مالك ومن وافقه، وفرّق الشافعي والأوزاعي وأحمد وغيرهم بين أن يوافق عادة أو لا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock