وقفه مع الشهادة من أجل الوطن ” الجزء الثالث عشر “

إعداد / محمـــد الدكــــرورى
ونكمل الجزء الثالث عشر مع الشهادة من أجل الوطن، وقد توقفنا عند طلب الشهادة بصدق ومن الذين طلبوا الشهادة بصدق ذلك الرجل الذى يسمى النجدى، كما ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بخباء أعرابي وهو في أصحابه يريدون الغزو فرفع الأعرابي ناحية من الخباء فقال من القوم؟ فقيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يريدون الغزو فقال هل من عرض الدنيا يصيبون؟ قيل له نعم يصيبون الغنائم ثم تقسم بين المسلمين فعمد على بكر له فاعتقله وسار معهم فجعل يدنو ببكره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل أصحابه يذودون بكره عنه فقال صلى الله عليه وسلم دعوا لي النجدي فو الذي نفسي بيده إنه لمن ملوك الجنة قال فلقوا العدو فاستشهد فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه فقعد عند رأسه مستبشرا أو قال مسرورا يضحك ثم أعرض عنه فقلنا يا رسول الله رأيناك مستبشرا تضحك ثم أعرضت عنه؟ فقال أما ما رأيتم من استبشاري أو قال سرورى، فلما رأيت من كرامة روحه على الله عز وجل وأما إعراضي عنه فإن زوجته من الحور العين الآن عند رأسه” ويأتي أحد الأصحاب في توزيع الغنائم ذات متعللا برجاء ما عند الله والدار الآخرة رافضا كل عطاء دنيوى من غنائم الحرب، فعن شداد بن الهاد رضي الله عنه ” أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه ثم قال أهاجر معك فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم فقسم وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم.
فلما جاء دفعوه إليه فقال ما هذا؟ قالوا قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم فأخذه فجاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم ” قسمته لك” قال ما على هذا اتبعتك ولكن اتبعتك على أن أرمى ههنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة قال صلى الله عليه وسلم “إن تصدق الله يصدقك” فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي صلى الله عليه وسلم “أهو هو” فقالوا نعم، قال صلى الله عليه وسلم” صدق الله فصدقه” ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبتة الشريفة صلى الله عليه وسلم ” ثم قدمه فصلى عليه فكان مما ظهر من صلاته عليه ” اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا فى سبيلك فقتل شهيدا أنا شهيد عليه” وكان من أحر الرجاء عند عبد الله بن جحش رضي الله عنه أنه يخاطب ربه بقوله” اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غدا فيقتلوني، ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وأذنى، ثم تسألنى فيم ذلك؟ فأقول فيك” وفي زمان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤسر شاب من الصحابة الأجلاء وهو عبد الله بن حذافة السهمي وينوع عليه قيصر الروم من صور العذاب ما يذيب الأرواح والمهج لدرجة أنه يأمر به أن يلقوه في إناء فيه زيت يغلي كالحميم وإذا به يبكي فيقول له ما يبكيك؟ قال أبكاني أن كنت أتمنى أن يكون بعدد ما رأسي من شعر أنفس تلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله، وكذلك كان أهل الله تعالى يرجون الشهادة من أي طريق، فها هو أحدهم يداعب جرحه بعد المعركة ويقول له إنك جرح صغير.
وقد يبارك الله في الجرح الصغير، يقصد أن يزيد ألمه في جراحه حتى يستشهد في سبيل الله، وهذا مقاتل من الدرجة الأولى قد حصد رؤوس الأعداء بعدد كثير لكنه ليس من أهل الجنة وليس له من الشهادة نصيب ولن ينزل منازل الشهداء أبدا كما جاء عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال “التقى النبي صلى الله عليه وسلم والمشركون في بعض مغازيه، فاقتتلوا، فمال كل قوم إلى عسكرهم، وفي المسلمين رجل لا يدع من المشركون شاذة ولا فاذة إلا اتبعها فضربها بسيفه، فقيل يا رسول الله، ما أجزأ أحد ما أجزأ فلان، فقال إنه من أهل النار، فقالوا أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار؟ فقال رجل من القوم لأتبعنه، فإذا أسرع وأبطأ كنت معه، حتى جرح، فاستعجل الموت، فوضع نصاب سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أشهد أنك رسول الله، فقال وما ذاك؟ فأخبره، فقال إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، وإنه من أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة” وإن من العجائب اللافتة أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة شهيد وعالم ومنفق، والبلاء ناتج في حالهم من نياتهم السيئة وعدم إخلاصهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ ألم أعلمك ما أنزلت على رسولى؟
قال بلى يا رب، قال فماذا عملت فيما علمت؟ قال كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله تعالى له كذبت، وتقول الملائكة كذبت، ويقول الله له بل أردت أن يقال فلان قارئ، فقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال، فيقول الله تعالى ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال بلى يا رب، قال فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له كذبت، وتقول الملائكة له كذبت، ويقول الله تعالى بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له فيماذا قتلت؟ فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله تعالى له كذبت، وتقول له الملائكة كذبت، ويقول الله تعالى له بل أردت أن يقال فلان جرئ، فقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة” وإنه لا يعادل أجور الشهداء إلا أهل الطاعات المتنوعة من صلاة وصدقات وقيام وصيام وبذل معروف وجهاد في سبيل الله وتحصيل علم وإصلاح بين الناس وغيرها من صور الطاعات الصالحة النافعة، فلأهل العمل الصالح الصحبة الكريمة مع الأنبياء والشهداء، فقال الله تعالى ” ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا” ومما يعادل أجور الشهداء ويوزن بدمائهم يوم القيامة أحبار أقلام العلماء، فقال الحسن رضي الله عنه ” يوزن مداد العلماء، ودم الشهداء، فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء ”
ثم إن أصحاب نبى الله عيسى عليه السلام الذين علموا صدق نبوته ورسالته راحوا يسألون ربهم أن يكتبهم مع الشاهدين بعد أن آمنوا به، واتبعوا رسوله، وشهدوا بأنهم مسلمون، وكذلك الذين جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا إنا نصارى كانوا كما جاء فى سورة المائدة ” إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين” ولهذا أمرنا ربنا سبحانه وتعالى أن نقيم البينات لإثبات الحقوق بالشهداء، إما بشهيدين من رجالنا، أو برجل وامرأتين، أو بشاهد واحد ويمين، أو بأربعة شهداء، وفق الحالة والنص الوارد فيها، وقيل عن الشهيد أن التسمية عائدة لكون الشهيد يشهد بدمه أنه من الصادقين، فكما أن الشهود في توثيق الحقوق يثبتون ما كُنب على الشهادة بتوقيع خاص بهم، أو حتى ببصمتهم فإن الشهيد يوقع على صدقه مع الله تعالى بدمه، فدمه شهيد على حبه لربه، ودلالة إيثاره ما عند الله تعالى على ما عنده، ثم إن الشهيد يبعث يوم القيامة وله شاهد بقتله، وهو دمه، لأنه يُبعث وجرحه يتفجر دما، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، فمعلوم أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث يوم القيامة عليه، وإن هذا السر إذا أضيف إلى سابقه شقّ اليقين شغاف قلبك أن للشهيد توقيعين يشهدان له عند ربه، توقيع في الدنيا يتمثل في قطرات دمه، وأشلاء جسده، وتوقيع آخر في ساحة الحشر، وكأن مداد التوقيع الأول يبقى ساريا إلى يوم القيامة، وأن المسلم مطلوب منه أن يؤدى شهادة لأحقية هذا الدين في البقاء.
وحمله لرسالة الخير والنور فى الناس، وهو لا يؤدى هذه الشهادة حتى يجعل من نفسه وأخلاقه وحياته صورة حية لهذا الدين، إذا رآها الناس عليه شهدوا لهذا الدين بالكمال والجمال وقالوا ما أطيب هذا الدين الذى يصوغ نفوس أصحابه على هذا المثال من الخُلق والكمال، ثم إذا رأوه يُؤثر القتل على الحياة من أجل بقاء هذا الدين، تأثروا به، وساروا على نهجه، وسموه شهيدا، لشهادته بأن هذا الدين الجميل خير من الحياة ذاتها، بعد أن قام بشهادة الحق في أمر الله تعالى حتى قتل، وقد ذكر النووي وغيره أن الصالحين شهدوا للمقتول في سبيل الله بالإيمان في حياته، وبخاتمة الخير عند موته، على ما ظهر من عمله، ذلك أن ألسنةَ الخلق هى أقلام الحق، فلهذه الشهادة من أهلها سمي من ضحّى بنفسه شهيدا، فعن أبي الأسود رضى الله عنه قال ” قدمت المدينة وقد وقع بها مرض، فجلست إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فمرت بهم جنازة، فأثنى على صاحبها خيرا” لأن الشهيد يشهد حاضرا بنفسه ما أعد الله تعالى له من الكرامة بالقتل فقد أخبرنا القرآن أن عموم الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، ألا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، وقال الله تعالى كما جاء فى سورة التوبة “إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بأيعتم به وذلك هو الفوز العظيم” وذلك الوعد الحق الذي يبينه القرآن الكريم.
لمكانة الشهيد عند ربه فقد فاز فوزا عظيما، والفوز العظيم هو أعلى مراتب الجنة عند الله تعالى بصحبة الانبياء وعلى حوض النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو في آية أخرى قال رب السموات والارض كما جاء فى سورة النساء ” ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ” وذلك هو الفوز المذكور في الآية السابقة، أما المكانة الأولى الاظهر في القرآن المجيد فهي الحياة عند الله بمجرد الشهادة فالشهداء لايموتون كما جاء فى سورة البقرة ” ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون” وخير بيان للوعد بالجنة كفوز عظيم هو قوله تعالى”إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم” وعن عتبة بن عبد السلمي قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”القتلى ثلاثة مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه فذلك الشهيد الممتحن في خيمة الله تحت عرشه لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة، ومؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا جاهد بنفسه وماله في سبيل الله إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه ممصمصة محت ذنوبه وخطاياه إن السيف محاء للخطايا وأدخل الجنة من أي أبواب الجنة شاء، ومنافق جاهد بنفسه وماله فإذا لقي العدو قاتل حتى يقتل فذاك في النار إن السيف لا يمحو النفاق” رواه الدارمى.