دين ودنيا

فى طريق الهدايه ومع فضل الحديث ” الجزء الحادى عشر


إعداد / محمـــد الدكــــرورى

ونكمل الجزء الحادى عشر مع فضل الحديث، وقد توقفنا مع حديث السيدة أم معبد الذي أورده ابن كثير في البداية والنهاية بطوله، حيث تقول السيدة أم معبد ” مرّ بنا رجل كريم مبارك، كان من حديثه كذا وكذا، قال صفيه لى يا أم معبد، فقالت “إنه رجل ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، أى أبيض واضح ما بين الحاجبين كأنه يضيء، حسن الخِلقة، لم تُزر به صعلة، أى لم يعيبه صغر في رأس، ولا خفة ولا نحول في بدن، ولم تَعبه ثجلة والثجلة هى ضخامة البطن، وسيما قسيما، في عينيه دعج وهو شدة سواد العين، وفى أشفاره عطف وهو طول أهداب العين، وفى عنقه سطع وهو الطول، وفى صوته صحل وهى بحّة، وفى لحيته كثافة، أحور أكحل، أزج أقرن والزجج هو تقوس في الحواجب مع طول وامتداد، والأقرن هو المتصل الحواجب، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحسنه وأجمله من قريب” ومثل ذلك ما كان منه صلى الله عليه وسلم مع سلمة بن الأكوع، حين أصاب امرأة من سبي فزارة في غزوة غزاها مع أبي بكر رضي الله عنه وكان بنو فزارة أحلافا لقريش، فاتهبها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عاد بها إلى المدنية، فأبى، ثم استجاب بعد أن أعاد عليه الطلب، وأخرج الإمام مسلم بسنده عن سلمة بن الأكوع قال، غزونا فزارة وعلينا أبو بكر رضي الله عنه.

وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فلما كان بيننا وبين الماء ساعة أمرنا أبو بكر فعرسنا، ثم شن المغارة فورد الماء فقتل من قتل عليه وسبي، وانظر إلى عنق من الناس فيهم الذراري فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فرميت السهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا، فجئت بهم أسوقهم وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع من أدم معها ابنة لها من أحسن العرب، فسقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر، فنفلني أبو بكر بنتها، فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوبا، فلقينى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق، فقال ” يا سلمة هب لي المرأة ” فقلت والله لقد أعجبتني، وما كشفت لها ثوبا، ثم لقيني رسول الله من الغد في السوق، فقال لي ” يا سلمة هب لي المرأة، لله أبوك” فقلت هي لك يا رسول الله، فوالله ما كشفت لها ثوبا، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، ففدا بها ناسا من المسلمين كانوا أسارى بِمكة، ومن هذا القبيل أمره صلى الله عليه وسلم بريرة حين شفع إليها لترجع إلى زوجها مغيث، حين اختارت نفسها عندما عتقت وهي تحته، فأبت معتذرة بكراهتها إياه فقد أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة ” لو راجعته ” فقالت يا رسول الله أتأمرني؟ فقال ” أنا أشفع” فقالت لا حاجة لي فيه، ومثله ما كان يشير به رسول الله صلى الله عليه وسلم في معالجة بعض الأمراض.

فإنه قد لا يصدر في ذلك عن وحي، ولكن عن تجربة ومعرفة اكتسبها من بيئته، وقد يصدر عن إرشاد من الله تعالى ويجب اتباعه، فيدل على الأول ما أخرجه أبو داود بسنده عن أسامة بن شريك قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كأنما على رؤوسهم الطير، فسلمت ثم قعدت، فجاء الأعراب من ههنا وههنا، فقالوا “يا رسول الله، أنتداوى؟” فقال “تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد السام ” وما أخرجه مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه، بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بن كعب طبيبا فقطع منه عرقا، وكذلك روى عمرو بن دينار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد مريضا فقال لأهله ” أرسلوا إلى الطبيب” فقال قائل “أنت تقول ذلك، يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “نعم فإن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له دواء” ولو كان الطب من أمر أو شريعة يوحى بها إليه ما أرسل الطبيب إلى أبي، ولم يأمر باستدعاء الطبيب، ولأشار على الأعراب بالرجوع إليه في علاج أمراضهم، وإذا ما صدر في شيء من ذلك عن وحي كما في رواية البخاري عن أبي سعيد قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أخي يشتكي بطنه، فقال صلى الله عليه وسلم ” أسقه عسلا” ثم أتاه الثانية، فقال صلى الله عليه وسلم ” أسقه عسلا ” ثم أتاه فقال فعلت، فقال صلى الله عليه وسلم ” صدق الله وكذب بطن أخيك، أسقه عسلا ” فسقاه فبرأ.

فإنه يكون إرشادا إلى ما فيه الشفاء دون تخلف عنه ولكنه مع ذلك لا يقتضي قصر الشفاء عليه، وأن لا شفاء في غيره كما لا يستوجب وجوب المعالجة به دون غيره، وكذلك الحال في لباسه صلى الله عليه وسلم هيئة ووضعا وشكلا، وفي طعامه نوعا ولونا وتناولا، فمرد ذلك إلى عادات قومه، ومقتضيات وطنه، وجوه التي صارت له عادة، ولو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم في جو آخر أو كان من غير العرب لتغير لباسه وطعامه تبعا لذلك، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم حين قدم إليه لحم الضب عافه، ولم يأكل منه، فقيل له أهو حرام؟ قال ” لا، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه ” وأخرج البخاري عن خالد بن الوليد رضى الله عنه، أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة فأتى بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فقال بعض النسوة أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل، فقالوا هو ضب يا رسول الله، فرفع يده، فقلت، أهو حرام يا رسول الله؟ فقال ” لا، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه ” فقال خالد بن الوليد فاجتررته فأكلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر فلم ينهني، فمثل هذه الأمور ما يشبهها، من هيئات جلوسه ونومه ومشيه، وكيفيات سيره وطريقة تناوله لطعامه، ونحو ذلك مما صدر عنه صلى الله عليه وسلم بمقتضى طبيعته، وجبلته، وكونه بشرا يحيا حياة الناس.

ويعيش عيشتهم، ويتقلب متقلبهم في أمور الدنيا، ومتطلبات الطبيعة الإنسانية لم يكن فيها شارعا، ولا تعد أعماله ولا أقواله فيها شريعة يؤخذ الناس باتباعها ويلامون على تركها، وإن دلّ ذلك على إباحتها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدم على معصية، وإذا روي عنه فيها صلى الله عليه وسلم ما يتضمن صيغة الأمر فهو في هذه الحال مجرد إرشاد، في الاحتفاظ بالتقاليد القومية، والعادات المرعيّة، التي يكون لها حسنها وجمالها في بيئتها، بينما يكون لها عكس ذلك في بيئة أخرى، تختلف فيها العادات والتقاليد إلى أضدادها، مما يكون طرحه والخروج عليه أمرا مذموما وفعلا سيئا في بيئته، كما هو الحال فيما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك، مراعاة في الاحتفاظ به وعدم الخروج عليه، من تلك العادات التي كانت للعرب حال حياته صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا ما تبيّن أن أمره بِشيء من ذلك إنما صدر للحافظ على خلق أو مروءة، أو لتجنب ضرر أو فساد، فإنه يكون حينئذ شريعة واجبة الطاعة، قد صدر في الأمر بها عن وحي لا عن عادة مرعية، وبِهذا البيان تحدد ما يعد من السنة شريعة واجبة الطاعة، وما نحن بصدد التعريف بمكانته في بيان الأحكام الشرعية، وأما عن مكانة السنة النبوية المشرفة في بيان الأحكام الشرعية، فإن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هما المصدران الأساسيان لتقرير الأحكام وبيانها.

وإليهما ترجع جميع المصادر الأخرى، ولكن الكتاب وهو القرآن الكريم يعد المصدر الأول والأساس الذي تقوم عليه السنة النبوية ولا تختلف عنه، وكان لذلك أصل الأدلة بقول الله تعالى في سورة النساء ” إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ” ويقول الله تعالى في سورة النحل ” ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ” ويقول الله تعالى في سورة الأنعام ” وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ” ويقول الله تعالى في سورة فصلت ” وإنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ” وإن الآيات في هذا المعنى عديدة كثيرة ونكتفي بما ذكرنا، وقد جاءت السنة مفسرة للقرآن، وهى تبين مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، وتفصل أحكامه، وتوضح مشكله، فمن الفرائض والأحكام ما جاء في القرآن الكريم مجملة نصوصه، كالصلاة والزكاة، والحج، فلم يذكر في القرآن الكريم هيئاتها ولا تفاصيلها، فبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بسنته الفعلية والقولية، فبيّن في الصلاة عددها وكيفياتها وجميع ما يتعلق بها، وفي الزكاة أنواع ما تجب فيه من الأموال، ومقدار الواجب فيها وما يتصل بذلك، وفي الحج أفعاله، وكيفيته ومناسكه، ومن الأحكام ما جاء النص فيه مطلقا مثل قول تعالى في آية المواريث من سورة النساء ” من بعد وصية يوصى بها أو دين ” فقيدت السنة مطلق الوصية .

بأن جعلتها وصية لغير وارث، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم ” لا وصية لوارث ” ومن الأحكام ما جاء النص فيه عاما فخصصته السنة، مثل قوله تعالى في سورة النساء ” وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين ” بعد بيانه المحرمات، فخصصته السنة بأن أخرجت من عمومه نكاح المرأة على عمتها وخالتها، كما أخرجت منه ما حرم نكاحه بسبب الرضاع، ممن لم يذكر في الآية قبله، وهو ما تناوله قوله صلى الله عليه وسلم ” يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب” كما فصلت السنة كثيرا مما حرمه الله تعالى بمقتضى نصوص القرآن الكريم العامة مثل قوله تعالى في سورة الأعراف ” قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ” إلى غير ذلك من بيانها وتفصيلها للأحكام الشرعية، ثم هي مع هذا البيان إذا أتت بزيادة إذا أتت بزيادة عن القرآن الكريم يجب ألا تتعارض مع أصوله العامة وقواعده الأساسية، بل تدور في محيطه غير متجاوزة نطاقه، وذلك شأن التابع مع المتبوع فكانت بسبب ذلك تابعة له، إذ التفسير تابع للمفسر، مرتبط وجوده بوجوده، ومما جاءت به من ذلك حرمة زواج المرأة على عمتها أو على خالتها، وتحريم لحوم الحمر الأهلية، ولحم كل ذي ناب من السباع، أو ذي مخلب من الطير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock