دين ودنيا

فى طريق الهدايه ومع فضل الحديث ” الجزء الثالث عشر “

إعداد / محمـــد الدكــــرورى

ونكمل الجزء الثالث عشر مع فضل الحديث، وقد توقفنا عندما وجد الإمام أبو بكر الأبهري أن في موطأ مالك أكثر من سبعين حديثا، فترك مالك نفسه العمل بها مع روايته لها، وبناء على ذلك فإنا نريد أن نعمد إلى ما وجه من شبه ومطاعن إلى السنة جملة من حيث روايتها، وما وجه من طعون إلى حجيتها، لا بالنظر إلى حديث معين فنبين زيف ذلك وبطلانه، أما ما وجه من ذلك إلى حديث معين أو إلى سند معين، أو راوى معين، فذلك من الموضوعات الجزئية التي تتعدد بتعدد متعلقها، ولا يعد ما تحويه من شبه ومطاعن موجها إلى السنة النبوية من حيث إنها أصل من أصول الأحكام الشرعية واجب التطبيق، وما كان من ذلك فقد وضعت فيه كتب ورسائل مستقلة منها المطول ذو الإطناب، ومنها المختصر ذو الإيجاز، وذلك لما قصد منه من درء ما يوجه الآن إلى السنة من شبه من حيث إنها أصل وحجة في الدين، ولا يجوز خلافها، وما وجه إلى روايتها من حيث إنها طريق سليم لنقلها إلينا كما صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما يأتي لما وجه إلى السنة النبوية من شبهات وشكوك في العصر الحاضر، وسنرى أن منه ما يتعلق برواية السنة، ومنه ما يتعلق بوجوب العمل بها على وضع دائم لا يتغير بتغير الزمن، ولا يختلف باختلاف الأمم، وأما عن ما وجه إلى روايتها، فقد ذكرنا أن وجوب العمل بالحديث منوط بصحة نسبته.

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقينا أو ظنا فما صحت نسبته إليه صلى الله عليه وسلم على سبيل القطع، كالحديث المتواتر، أو ظنا كالحديث الصحيح من الآحاد، وجب العمل بمقتضاه، وحرمت مخالفته، وما لم يتحقق فيه ذلك لم يجب العمل به، وقد كانت عناية رجال الحديث بالسند ورجاله في سبيل توثيقهما والحكم على الحديث بصحة نسبته أو بعدم صحتها، عناية فائقة، لم يجد معها المغرضون ولا الناقدون أية ثغرة ينفذون منها إلى توجيه أي نقد ينال من الأسس والقواعد التي وضعت لوزن الأسانيد ورجالها، وما بني على ذلك من أحكام كان لها آثارها في الحكم على الحديث قوة وضعفا وقبولا وردا، كما كان لها الأثر البالغ في التعرف على كثير من الأحاديث الموضوعة، وتمييزها من الأحاديث الصحيحة، وقد كانت هذه القواعد والأسس نتيجة بحث دائب في بيان حال الرواة وسيرتهم، وعمن أخذوا عنه، وعمن أخذ عنهم، ومن عاصرهم ومن لم يعاصرهم، وفي بيان من عرف منهم بالضبط، والحفظ، والاتفاق، والصدق، ومن كان منهم على خلاف ذلك من الكذب والوضع أو السهو، أو سوء الحفظ، أو التدليس، أو عدم الضبط، وفي بيان طرائق سماعهم وتحملهم، وذلك بحسب ما وصل إليه جهدهم، وانتهى إليه تحريهم وبحثهم، ولم تصل أمة من الأمم،

إلى ما وصلت إليه الأمة الإسلامية في ذلك من الدقة والتحقيق، وفي وضع الأسس والقواعد التي يبنى عليها الحكم على الأخبار وروايتها، ولهذا كان ما وجه من النقد إلى السنة النبوية من بعض المستشرقين أو الناقدين المغرضين أو غير المغرضين، ومن لف لفهم وخدع بأفكارهم موجها أكثره إلى ناحية المتن، فقد زعموا أن رجال الحديث لم يعنوا بالمتن عنايتهم بالسند، وأن ما وضعوه في سبيل الحكم على المتن من القواعد لم يكن كافيا لتمييز الصحيح من غيره، مما كان سببا في عدم التعرف على كثير من الأحاديث الموضوعة، واختلاطها بالأحاديث الصحيحة، وكان ذلك بناء على ما وصل إليه تحريهم وبحثهم في سلامة أسانيدها، وتوافر الثقة في رجالها، وهي ثقة كما نعلم قامت على التحري، والسماع، والتقدير، وذلك أمر يتعرض للخطأ، وتختلف فيه الأنظار باختلاف الناس وتفاوتهم في أفكارهم وأنظارهم وبحوثهم، ويؤيد أصحاب هذا الرأي رأيهم هذا بذكر بعض أحاديث وردت في الصحاح، يرونها من ناحية ما دلت عليه غير مقبولة في عقولهم، أو معارضة لما هو معروف مسلم لديهم من الوقائع والقضايا، وذلك مثل ما أخرجه البخاري عن عامر بن سعد عن أبيه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” من اصطبح كل يوم تمرات عجوة، لم يضره سم، ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل ” وفي رواية ” سبع تمرات عجوة”

وفي رواية أخرى ” من تصبح كل يوم بسبع تمرات” ومثله لمسلم عن سعيد بن أبي العاص، وروى مسلم أيضا عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال، أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ” متى تقوم الساعة؟ ” قال، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هنيهة ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزد شنوءة فقال ” إن عمر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة” قال أنس، ذاك الغلام من أترابي يومئذ، وقد مات أنس سنة ثلاثة ونسعين من الهجرة وهو ترب الغلام والواقع أن هذا النقد لا يخلو من حيف وجور في الحكم على الجهود التي بذلها علماء السنة للحكم على الحديث من ناحية متنه، وإذا كانت جهودهم في هذا المجال من حيث التفصيل والمادة دون جهودهم في سبيل الحكم على السند ورجاله، فإن ذلك التفاوت لا يرجع إلى نقص أو تقصير بالنسبة لما يتطلبه النظر في المتن وحاله والحكم على الحديث بناء على ذلك، وإنما يرجع إلى أن أحوال المتن ليس لها ما لأحوال السند من تنوع وتعدد واختلاف، مما أدى إلى كثرة البحوث والعلوم المتعلقة بالسند، ولم يغفل علماء الحديث النظر في المتن، وما يجب أن يتوافر فيه من الصفات الدالة على صحته، وما يجب أن يبرأ منه المتن من العلامات والشواهد التي إذا وجدت فيه دلت على وضعه مما هي كفيلة بالتعرف على أي حديث موضوع، وتمييزه عند مراعاتها.

وهذا بيان أهمها في إجمال، ركاكة معناه وضعفه، حيث قال الحافظ ابن حجر ما خلاصته، هو ركاكة معنى الحديث يدل على وضعه، وإن لم ينضم إلى ذلك ركاكة في لفظه، لأن الدين كله محاسن والرداءة والضعف مما ينأى عنه الدين، وأيضا فساد معناه، وذلك بأن يخالف ما تقضي به العقول السليمة دون إمكان تأويله، كأن يخالف البدهيات، أو ما هو معروف مسلم به من القواعد العامة في الحكم والأخلاق، أو داعيا إلى الاستجابة إلى الشهوة والمفسدة أو مخالفا للحس والمشاهدة، أو لقطعيات التاريخ، وللسنن الكونية أو لبدهيات الطب، أو المعقول في أصول العقيدة من صفات الله ورسله، أو مشتملا على سخافات لا تصدر عن عاقل، وفي ذلك يقول ابن الجوزي إذا رأيت الحديث يباين المعقول، أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع، وقال في كتابه المحصول، كل خبر أوهم باطلا، ولم يقبل التأويل فمكذوب، أو قد نقص منه ما يزيل الوهم، وأيضا مخالفته للكتاب أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي، فقال ابن قيم الجوزية ومن الأمور التي يعرف بها أن الحديث موضوع مخالفته صريح الكتاب، كحديث مقدار مدة الدنيا، وأنها سبعة آلاف سنة، لمخالفته قوله تعالى فى سورة الأعراف ” قل إنما علمها عند ربى ” وقوله تعالى فى سورة لقمان ” إن الله عنده علم الساعة ” ومن ذلك أيضا مخالفته صريح السنة المسلم بها شهرتها أو لتواترها.

وأيضا مخالفته الوقائع التاريخية المقطوع بصحتها، وذلك مثل ما رواه الإمام مسلم بسنده عن أبي وائل قال خرج علينا ابن مسعود بصفين، فقال أبو نعيم أتراه بعث بعد الموت؟ إذ قد توفي قبل ذلك، ومثل ما روى من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع الجزية عن أهل خيبر ورفع عنهم الكلة والسخرة بشهادة سعد بن معاذ، وكتابة معاوية بن أبي سفيان، مع أن الثابت أن الجزية لم تكن مشروعة عام فتح خيبر، وإنما نزلت آية الجزية بعد تبوك، وأن سعدا توفي قبل ذلك في غزوة الخندق، وأن معاوية إنما أسلم عام الفتح، وأيضا صدور الحديث من راوى تأييدا لمذهبه وهو متعصب مغالى فيه وذلك كالأحاديث التي صدرت من أتباع المذاهب الفقهية والكلامية، تأييدا لمذاهبهم أو مذهب إمامهم مثل حديث “من رفع يديه في الصلاة فلا صلاة له” ومثل “المضمضة والاستنشاق للميت ثلاثا فريضة” ومثل “من قال القرآن مخلوق فقد كفر” وأيضا اشتمال الحديث على إفراط في الثواب العظيم جزاء عمل صغير، أو اشتماله على مبالغة في الوعيد الشديد على الأمر الحقير، وذلك كالأحاديث التي وضعها القصاص في ثواب بعض الأعمال، وفي جزاء بعض الجرائم والمخالفات، وأن يتضمن الحديث أمرا من شأنه أن تتوفر الدواعي إلى نقله لأنه وقع بمشهد عظيم، ثم لا يشتهر ولا يرويه إلا واحد وبِهذا حكم أهل السنة على حديث غيرهم بالوضع.

وهو الحديث المتضمن النص على خلافة علي ووصايته، ولا شك أن هذه أسس سليمة رصينة محكمة كفيلة بتمييز الأحاديث الموضوعة من الأحاديث الصحيحة، لا يسع المنصف أن ينازع في قوتها وإحكامها وكفايتها، ومع هذا لم يكتف رجال الحديث بها في سبيل نقد المتن، بل نقدوه مع ذلك من ناحية اضطرابه أو شذوذه أو إعلاله، كما بحثوا فيما وقع فيه من قلب أو غلط أو إدراج، إلى غير ذلك من العلل التي عني العلماء ببيانها وشرحها فيما وضع في ذلك من الكتب، وقد رأيت فيما سبق أن ما وضع من موازين وضوابط للتعرف على ما في الأحاديث من قوة وضعف لم يكن الهدف منه الوصول إلى القطع بصحة نسبة الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان الغرض منه الوصول إلى غلبة الظن بصحة تلك النسبة، ولذا قالوا إن ما حكم بصحته من أحاديث الآحاد قد يكون في واقع الأمر غير صحيح ولكن هذا احتمال ضعيف لا يحول دون وجوب العمل كما قدمنا، ولقد ذكر أصحاب هذا النقد أنه كان من الواجب أن يؤسس نقد المتن أيضا على أسس أخرى لم تنل من علماء الحديث عناية وهي اتفاق ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول مع الظروف التي قيل فيها وعدم معارضته للحوادث التاريخية الثابتة، وكذلك خلو الحديث من التفسير الفلسفي الذي يخالف المألوف من بيانه صلى الله عليه وسلم وخلوه من الأساليب الفقهية التي تتعرض لذكر الشروط والأركان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock