نظرة تأمل مع مكارم الأخلاق وبناء الحضارات ” الجزء الثالث “
إعداد / محمـــد الدكـــروى
ونكمل الجزء الثالث مع مكارم الأخلاق وبناء الحضارات، وقد توقفنا مع خلق التعاون، وإن الإسلام حث المسلمين بشكل خاص على تحفيز هذا الخلق في المجتمع، لما له من أثر كبير يصب في الغاية الأساسية التي وجد الإنسان في الأرض بسببها عمارة الأرض فقال الله تعالى فى كتابه الكريم ” وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ” ومن صور التعاون هو إبعاد المسلم للأذى والعدوان عن أخيه، وأيض التعاون في أمور الدين والعبادات، وإعانة العالم بعلمه، والقوي بقوته، والغني بماله، والتقي بمساعدة الناس في التزام الحق والابتعاد عن ما يغضب الله تعالى، وأيضا من مكارم الأخلاق جبر الخواطر ويتمثل هذا الخلق في تقديم الدعم المعنوي قبل المادي لمن لديه حاجة أو حتى يواجه ويعاني من مشاكل معينة في حياته، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مواقف من حياته كان قد جبر وساند فيها أناس يمرون بفترات حرجة كمرض وغيره، مثل معاودة المرضى من الناس، ولهذا الخلق أثر كبير في نفوس الناس وله دوره في مساندتهم، وإن من صور التعاون هو زيارة المريض ومساعدته في شؤونه، وأيضا التشجيع المعنوي لمن فشل في أمر ما، وقد أخذ بأسباب النجاح، والمساندة في حالات الوفاة، وكذلك من مكارم الأخلاق هو التسامح، وهو صفة الإسلام البارزة وفيه يتنازل الناس عن حقوقهم بطيب خاطر منهم وبكامل الرضا، وحث عليه الإسلام كثيرا لما له أثر في اختفاء النبذ والكراهية والعداوة بين الناس، فيتحقق مقصود عمارة الأرض.
فلن تعمر الأرض بوجود المشاحنات بين الناس، فقال الله تعالى فى كتابه العزيز ” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين” وإن من صور هذا الخلق الكريم أن تسامح المسلم مع من له عنده حق مادي و معنوي، وتسامح المسلم مع من تسبب له الأذى، وإن من سماحة الإسلام، هو حين تجد امرءا سهلا ميسرا، يتنازل عن حظ نفسه أو جزء من حقه، ليحل مشكلة هو طرف فيها، أو ليطوي صفحة طال الحديث فيها، أو ليتألف قلبا يدعوه، أو ليستطيب نفس أخيه، وهو قبل ذلك لا يتعدى على حق أخيه، ولا يلحف في المطالبة بحقوقه، فذلك هو الرجل السمح، وتلك هي السماحة، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحمة للرجل السمح فقال صلى الله عليه وسلم “رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى” رواه البخاري، وإن السماحه ما هي إلا صور من المعاملات اليومية، التي تقتضي قدرا كبيرا من السماحة، ويعلق ابن حجر رحمه الله على رواية الإمام البخاري بقوله ” السهولة والسماحة متقاربان في المعنى والمراد بالسماحة ترك المضجرة ونحوها، ومعنى إذا اقتضى، أي طلب قضاء حقه بسهولة وعدم إلحاف، ومعنى إذا قضى، أي أعطى الذي عليه بسهولة بغير مطل، وفيه الحض على السماحة في المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق، وترك المشاحنة، والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة، وأخذ العفو منهم، وأكثر ما تكون الخصومات في المعاملات المالية، والمناظرات الخلافية.
والملاسنات الكلامية، وقل أن يسلم فيها من لم يتحل بكرم الخلق، وجود النفس، وسماحة الطبع ، وإن صور السماحة، هو التنازل عن الحق، وإن صاحب السماحة لا تطيب نفسه بأن يحصل حقا لم تطب به نفسه الطرف الآخر، فيؤثر التنازل أو السماحة، إن كان الحق له، وهذا ما كان من عثمان بن عفان رضي الله عنه حين اشترى من رجل أرضا، فتأخر صاحب الأرض في القدوم عليه لقبض الثمن، وتبين له أن سبب تأخره أنه بعد أن تم العقد شعر البائع أنه مغبون، وكان الناس يلومونه كيف تبيعها بهذا الثمن ؟ قال عثمان بن عفان رضى الله عنه ” فاختر بين أرضك ومالك ” ثم ذكر له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال ” أدخل الله عز وجل الجنة رجلا، كان سهلا مشتريا وبائعا، وقاضيا ومقتضيا” رواه أحمد، وأيضا من مكارم الأخلاق هو التواضع وذلك لما له من فضائل فهو الأثر الخارجي للكيفية التي يرى العبد نفسه فيها، فإن كان يعظم نفسه أو يقلل منها، فيظهر ذلك في سلوكه مع الآخرين، ولا يتعارض مفهوم التواضع مع مفهوم تقدير النفس، فعكس التواضع التكبر، وإن من صور التواضع هو التواضع في علاقته مع الله تعالى، فيدرك أنه هو صاحب العزة والقوة فيستصغر نفسه، ولا يتكبر في عبادته، وكذلك التواضع في كلامه مع الناس، وكذلك التواضع في تعامله مع من هم أقل منه منزلة، وأن يعاملهم مثلما يعامل أكابر المجتمع، وأيضا من مكارم الأخلاق هو الكرم وهو صفة ترتبط بقوة التوكل والإيمان والتقوى، ويأتي دافع الكرم من كرم النفس، ويأتي تطبيقه في الحياة في عدة نواحى.
منها الكرم بالنفس، كأن يجود المسلم بنفسه في ساحة القتال، وأيضا الكرم بالمال، وأعظم ما يكون عند الفقر والحاجة، وأيضا الكرم في إعطاء الناس مسألتهم وعدم ردهم دون قضاء حاجتهم، وإن هناك صور تتنافى مع السماحة، وهى كثرة الخصومات وإن مما يتنافى مع السماحة الانزلاق إلى اللدد والخصومة، إذ كما يحب الله السماحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” فإن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ” رواه البخاري ، قال في الفتح الألدّ الكذاب، وكأنه أراد أن من يكثر المخاصمة، أنه يقع في الكذب كثيرا، وحين يفتقد المرء السماحة تجده ينحدر في أخلاقه، إلى أن ينجرف إلى التصايح والجدل لأمر يعلم بطلانه، أو وقوفا على طرف لا يدري مدى أحقيته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه” رواه أبي داود، وقد قيل في المثل ما استرسل كريم قط، وأيضا من الصور التى تتنافى مع خلق السماحه هو كثرة الجدل فإن خلق السماحة يقتضي من صاحبه المبادرة إلى التنازل عند الوقوع في أي موقف جدلي، ولنتذكر دائما أن العلم بميقات ليلة القدر خير كبير حرمت منه الأمة بسبب انعدام روح السماحة بين رجلين من الأمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرُفعت” رواه البخاري، وكم تحرم الأمة من البركات والنعم والنصر حين تدب الخصومات، بل إن صفة أساسية من أخلاقيات المنافق أنه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ” وإذا خاصم فجر” رواه البخارى.
ولا يليق بالرجل السمح أن يتعنت ويجادل ويشد ويصيح، ناهيك عن أن يفجر في الخصومة والجور هو الميل عن الحق والاحتيال في رده، وإنه مما يتنافى مع روح السماحة أن يقع الإخوة في جدالات تافهة لأمور سياسية، أو قضايا فكرية، أو توقعات غيبية ، ثم تجدهم ينفضّون متباغضين وما كانت البداية إلا روح الجدل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أُوتوا الجدل ” رواه ابن ماجه، ولحث المسلمين على السماحة في الحوار، والتنازل عند الاختلاف، وعدم الوقوع في مغبة الجدل، فقد تعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت في الجنة لمن تنازل فقال صلى الله عليه وسلم ” أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا” رواه أبي داود، ولا يمكن أن يكون سماحة وتنازلا إلا حين يكوم محقا، وإنه لعسير، وإن أجره لكبير، وكذلك من الصفات التى تتنافى مع خلق السماحه هو، كثرة اللغو وإن من نتائج انعدام روح السماحة أن تغدر أمتنا تتبارى بألسنتها، فتنقلب إلى أمة كلام بدل أن تكون أمة عمل، وتضيع الأوقات في الشد والجذب والأخذ والرد، وكل يناصر رأيه، وإن مما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته هو كما قال صلى الله عليه وسلم “منعا وهات” ومما كره لهم هو ” قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال” رواه البخاري، وإن هناك أيضا مواقف تقتضي السماحة، ومنها السماحة في الجهاد ولا يكمل أجر المجاهد إلا بالسهولة والسماحة وثال رسول الله صلى الله عليه وسلم” فإن الغزو غزوان، فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام.
وأنفق الكيمة، وياسر الشريك، واجتنب الفساد، فإن نومه ونبهه أجر كله” رواه أبي داوود ، والمعنى يريد موافقته في رأيه مما يكون طاعة، ومتابعته عليه وقلة مشاحته فيما يشاركه فيه من نفقة أو عمل، وأيضا السماحة مع الزوج، وتظهر آثار السماحة في جميع مظاهر حياة صاحبها، فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زوجه السيدة عائشة بنت أبى بكر رضي الله عنها حين قصدت الحج والعمرة، فأصابها الحيض، فحزنت لعدم تمكنها من أداء العمرة، وبكت لذلك وقالت ” يرجع الناس بحجة وعمرة، وأرجع بحجة؟ فيقول جابر بن عبد الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا سهلا، حتى إذا هويت الشيء تابعها عليه، فأرسلها مع عبد الرحمن بن أبي بكر فأهلت بعمرة من التنعيم قال النووي، سهلا أي سهل الخلق، كريم الشمائل، لطيفا ميسرا في الخلق” رواه مسلم، فما أعظم سماحته صلى الله عليه وسلم مع أهله في مثل هذا الموطن المزدحم، وفي حال السفر، وأيضا السماحه مع المدعوين، فيجب تأمل سماحة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته فحين وجد ريح ثوم في مسجده، فقد نهي الصحابة عن أن يرد أحد مسجده قبل ذهاب ريح الثوم منه، وكان المقصود بالنهي المغيرة بن شعبة يقول رضي الله عنه أتيته فقلت يا رسول الله إن لي عذرا، ناولني يدك قال فوجدته والله سهلا فناولني يده، فأدخلتها في كمي إلى صدري، فوجده معصوبا، فقال إن لك عذرا ” فعذره حين وجد أنه أكل الثوم لمرض، وكم نحتاج إلى أن نتأسى بهذه السماحة مع المدعوين لنكون مبشرين غير منفرين، ميسّرين غير معسّرين.
وأيضا من مكارم الأخلاق هو الصبر، وهو امتلاك النفس عند مواطن الشدة، وترك الشكوى عند البلاء، والصبر يكون واجبا أحيانا وذلك في فعل الطاعات، ومندوبا أحيانا أخرى في أداء المستحبات، وحرام في نواحى، مثل الصبر عن الطعام والشراب حتى يوشك الإنسان على الهلاك، ومن صور هذا الخلق الكريم هو الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر على ما يصيب المسلم من مصائب وفتن، وإن العلاقة بين الصبر والسماحة وهو إن مما عرف به رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان قوله صلى الله عليه وسلم الإيمان، الصبر والسماحة” صحيح الجامع، حيث عرف الإيمان بحسن المعاملة مع الخالق والمعاملة مع المخلوق، وكأنما يريد بالصبر علاقة العبد مع ربه، بالصبر على طاعته، والصبر عن معصيته والصبر على أقداره، وكأنما أراد بالسماحة علاقة العبد بأخيه بحيث تغلب عليها السهولة والمياسرة والسماحة، وقابلية التوسيع والتناول لرضى الله، وفيما يرضي الله وربما كان من حكمة الربط بينما أن السماحة تقتضي قدرا كبيرا من الصبر، وكذلك من مكارم الأخلاق هى الرحمة وهى إيصال الخير إلى الآخرين وبها تتمثل رقة القلب، ولها صور عدة في تطبيقها، منها رحمة الأب بابنه، فهذه الرحمة متمثلة بالحزم والحب، وذلك حين يكره ابنه على التأدب بالعلم والأدب، وأيضا رحمة الشريعة الإسلامية بالعباد، وذلك بعدم تكليفهم ما لا يطيقون وكذلك رحمة المسلم بمن تحت يده من الخدم والموظفين، وإن من مكارم الأخلاق أيضا هو الحياء وهى الصفة التي يعرف بها الصالحين والصادقين.