دين ودنيا

نظرة تأمل مع الصدق والصادقين ” الجزء العاشر “

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء العاشر مع الصدق والصادقين، وقد توقفنا مع الكذب وإن من أعظم الكذب الكذب على الله بتحليل ما حرمه أو بتحريم ما أحله، أو إسقاط ما أوجبه وإيجاب ما لا يجب، أو كراهة ما أحبه واستحباب ما كرهه، هذه من أعظم الكذب، وكذلك الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم” إن كذبا عليّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار “رواه البخاري ومسلم، وهذه خطورة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك فإن للكذب علامات وأمارات كما قلنا في الصدق، فمن علامات الكذاب، أنك إذا لقنته حديثا تلقنه ولم يكن بينه وبين ما حكيته فرق عنده، وأخذ مباشرة أي شيء تقوله، أنك إذا شككته فيه تشكك حتى يكاد يرجع عنه، وإنك إذا رددت عليه قوله، حُصر وارتبك ولم يكن عنده نصرة المحتجين، ولا برهان الصادقين، إذا رددت عليه أبلس، أما الصادق إذا رددت عليه قوله ثبت عليه، وكذلك ما يظهر عليه من الريبة والتخبط في الكلام، لأن هذا لا يمكن أن يدفعه عن نفسه، كما قالوا الوجوه مرايا تريك أسرار البرايا، ومن أضرار الكذب، أن الكذاب ينسب إليه حتى الأشياء التي لم يكذب فيها، فيكذب على الكذاب، ولو تحرى الصدق يبقى متهما، وإذا عرف الكذاب بالكذب لم يكد يصدق في شيء وإن كان صادقا، ومن آفة الكذاب نسيان كذبه، ولذلك فإن الكذاب يكون في منزلة وضيعة بين الناس.

ولكن هل هناك أمور يجوز فيها الكذب؟ فإن الجواب هو نعم، فإنه يجوز الكذب في الحرب، وإصلاح ذات البين، وبين الزوجين، والنبي صلى الله عليه وسلم، قد استخدم التورية، ولذلك نقول الكذب يجوز في حالات لكن اللجوء إلى التورية أحسن، وإن الصحابى الجليل أبو بكر الصديق رضى الله عنه قد استخدم التورية فسئل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معه فقال هذا هاد يهديني السبيل “رواه البخاري، فظنوا أنه على هداية الطريق وهو على هداية سبيل الخير، وإن من الأشياء التي يجوز الكذب فيها هو بين الزوجين، ليس الكذاب الذي ينمي خيرا أو يقول خيرا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم” ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا ” رواه البخاري ومسلم، أو ليصلح ما بينه وبين زوجته لو كذب عليها فإنه لا يعتبر بذلك كاذبا ولكن الإنسان يستخدم المعاريض كما ذكرنا، وإن من الكذب الذي يقع هو ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مخاطبا به بعض النساء ” لا تجمعن جوعا وكذبا” فقد قدم لبن فأمر بتقديمه لبعض النساء فقلن لا نشتهي فقال ” لا تجمعن جوعا وكذبا “رواه أحمد وابن ماجة، وهذه حال كثير من الناس يأتيك في البيت تريد أن تضيفه فيقول لا أشتهي ولا أريد, وهو يشتهي لكن يعتبر أنها من الحرج أو شيء من هذا القبيل فيكون قد وقع في الكذب، إما أن يقول لا أريد لكن يقول لا أشتهي وهو يشتهي فهذا من الكذب.

وإن الصدق مع الله تعالى هو الذي يبعث على الافتداء بكل غالى ورخيص في سبيل رضوان الله عز وجل ومحبته ونصرة دينه مهما كانت التضحية ومهما كان الثمن غاليا، فالصدق مع الله عز وجل هو الذي دفع بطلحة أن يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أحد حتى شُلت يده رضي الله عنه، والصدق مع الله هو الذي دفع بسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن يقاتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أحد، وكان يناوله النبل ويقول “ارم ياسعد، فداك أبي وأمي” والصدق مع الله هو الذي حدا بأبي طلحة أن يستبسل في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمشركون محيطون به وأبو طلحة يقول “يانبي الله، بأبي أنت لا تشرف إلى القوم ألا يصيبك منهم سهم، نحري دون نحرك” أي جعل الله نحري دون نحرك، وهذا الشأن هو الذي دفع بنسيبةَ بنت كعب رضي الله عنها في أحد أن تذبّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وترمى بالقوس وتصاب بجراح كثيرة، وهذا الأمر أي الصدق مع الله هو الذي جعل أبا دجانةَ يترس بنفسه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقع النبل في ظهره وهو منحنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كثر فيه النبل، فما بال بعض المسلمين اليوم حينما تعرض عليه مصالح آنية أو منافع ذاتية تجده يسير وراءها لاهثا، ويندفع نحوها مسرعا، ولو كان ذلك على حساب دينه ومخالفة أمره؟

فبئس القوم فبئس القوم، آثروا دنياهم على آخرتهم، واستبدلوا الفاني بالباقي، وإن الصدق الشامل مع الله تعالى معناه هو أنك إذا قلت إني أحبك يا رب، وأخافك وأرجوك، فإنك تمتحن بالتكاليف الشرعية، وتمتحن بالأوامر الإلهية وبالنواهي، فإن كنت صادقا في قولك آمنت، فإنك لا ترضى لنفسك أبدأ أن تقع في حرام، أو أن تترك واجبا من الواجبات، فإذا قيل لك إن شرب الخمر حرام، إن شرب الدخان حرام، إن ظلم العامل حرام، إن الغيبة والنميمة حرام، إن إيذاء المسلم فسوق وإجرام، فإنك تعمل كل جهدك لكي لا تقع في ما حرم الله عليك، هذا إذا كنت صادقا، لهذا يقول سبحانه وتعالى كما جاء فى سورة الزمر ” والذى جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ” والذي جاء بالصدق، هو النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به هم المؤمنون الذين اتبعوا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وصدقوا في ذلك، ولقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادقين عند الله، فيقول “من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وجبت له الجنة” وإن الرضا بالله ربا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وبالإسلام دينا المقصود منه، أن ترضى وأنت صادق مع الله، وهذا الرضى مع الصدق، هو الذي يجعلك تتحمل جميع المشاق في سبيل أن تصدق مع الله، وأن ترضيه، وهذا هو الذي فعله سلفنا الصالح، الذين صدقوا مع الله، واخلصوا له.

فإن خبيب بن عدي أخذه كفار مكة، وصلبوه على الخشبة، وأرادوا قتله، وقال له أبو سفيان وكان كافرا حينئذ، قال له يا خبيب أترضى أن يكون محمد مكانك، وتنجو أنت؟ فانظر إلى الرد وتعلم الصدق، فإذا به يقول والله ما أرضى أن يشاك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشوكة وأنا حي، فكيف أرضى بأن يكون مكاني؟ يعني أنا فداء لشوكة تصيبه لا أرضى بها، وانظر إلى المرأة المسلمة في غزوة أحد تأتي من بعيد بعد أن سمعت بهزيمة المسلمين، فيقال لها قتل زوجك، فتقول وأين رسول الله؟ فيقال لها وقتل أبوك، فيقول وأين رسول الله؟ فيقال لها وقتل ابنك، وقتل أخوك، فتقول وأين رسول الله؟ حتى إذا رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقبلت عليه، وأمسكت بثوبه، وقالت كل مصيبة بعدك جلل، أي كل مصيبة بعدك هينة، وإن قتل الزوج والابن والأب، فما دمت أنت حيا، فكأن أحدا لم يقتل، فهل هناك أعظم من هذا الصدق؟ فما أعظم الصدق مع الله، وما أعظم الإيمان به، فإننا دخلنا في الإيمان ونحن أسعد الناس بهذا الإيمان، ولو لم يكن لنا في الحياة، لو لم يكن لنا مال ولا بنون ولا زوجات، ولا أولاد، ولا أي شيء نتمتع به إلا أن نشعر بأن قلوبنا مليئة بحب الله، والخوف منه، وأن ألسنتنا مرطبة بذكره، وأن الله أمتن علينا بمعرفته، وأكرمنا بالنطق بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، ولو لم يكن لنا إلا ذلك لكان أكبر سعادة لنا في الدنيا والآخرة، إنها نعمة عظيمة علينا.

أن جعلنا الله تعالى من المسلمين المؤمنين، ولكن الكثير لضعف أخلاقهم وافتقادهم للصدق مع الله، فإنهم لا يقدرون هذا النعمة، ولا يعرفون قيمتها، فيعيشون في هذه الحياة، وهم يتمردون على أوامر الله تعالى ورسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، وساخطون، وناقمون على قدر الله وقضائه، وقيل أنه رأى رجل رجلا آخر مستندا على شجرة، وهو يقول الحمد الذي عافاني مما ابتلى به كثيرا من خلقه، فقال له وأراد أن يختبره، قال له يا رجل، هل لك بلد تسكنه؟ فقال لا، فقال هل عندك دار؟ فقال لا، فقال هل عندك مال؟ فقال لا، فقال هل عندك زوجة أو أولاد؟ فقال لا، فقال ليس عندك من حطام الدنيا شيء وأنا أرى مرض الجذام يأكلك، ومع ذلك أراك تقول الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيرا من خلقه، من أي شيء عافاك الله؟ والله ما أرى إلا البلايا كلها قد حطت عليك، فقال له ابتعد عني يا بطال، تريد أن تفسدني على ربي؟ ألم يترك لي قلبا يعرفه ولسانا يذكره؟ ثم قال حمدت الله رب إذ هداني، إلى الإسلام والدين الحنيف، فيذكره لساني كل وقت، ويعرفه فؤادي باللطيف، نعم أنت إذا خلوت بربك وركعت له، وسجدت له، وطاوعك جسدك في الركوع والسجود، فأنت في أعظم نعمة، وإذا قمت قبل الفجر، وناجيت الله تعالى، وهو سبحانه قد نزل إلى السماء الدنيا نزولا يليق به سبحانه وتعالى، وهو يقول “من يدعوني فاستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟”

فإنه من مثلك وقد تفتحت أبواب السماء لدعائك؟ ومن مثلك وربك يقول لك كما جاء فى سورة غافر ” ادعونى استجب لكم ” من مثلك إذا فعلت ذلك؟ من مثلك وأنت بهذا الإيمان الصادق؟ يستنير قبرك، فلا يكون مظلما عليك، ويستنير بهذا الإيمان طريقك إذا بعثت يوم القيامة، فتمشي في النور، والناس في الظلمات، من مثلك وأنت تجد هذا الإيمان الصادق يظلك الله به يوم لا ظل إلا ظله وتحت عرشه؟ من مثلك وأنت تجد هذا الإيمان الصادق هو المركب الهني الذي تعبر به الصراط، وتدق به أبواب الجنة، وتجد نفسك بين الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا من مثلك؟ فهل تريد حياة أجمل من هذه الحياة؟ وهل تريد سعادة أنعم من هذه السعادة؟ فإن المشكلة أننا ما صدقنا الله في إيماننا، لعبت بنا الحياة الدنيا، فأخذتنا عن الله، ولعبت بنا الشياطين، فأبعدتنا عن دين الله، وعن طريق الله، وإن أحدنا يعتاد العادة السيئة، فلا يستطيع تركها، ويعمل العمل المحرم، فلا يستطيع أن يفارقه، إذا قلت له أن تأخيرك للصلاة ونومك عنها كبيرة من الكبائر، قال لا استطيع ترك النوم لأنه عندي أهم من الصلاة، وإذا قلت له إن أولادك يفتقدون للخلق والأدب ويؤذون الناس، قال أولادي أحسن من أولاد غيري، وإذا قلت له إن ظلمك لزوجتك وهجرها والإساءة إليها من الكبائر، قال إنني حر أفعل ما أشاء، وإذا قلت له إن ظلمك لعمالك وموظفيك حرام، وإن غشك للمسلمين في البضائع وتسويق هذه البضائع بالحلف الكاذب كبيرة وجريمة من أكبر الجرائم، قال الناس يفعلون ذلك.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock