دين ودنيا

نظرة تأمل مع الصدق والصادقين ” الجزء التاسع “

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء التاسع مع الصدق والصادقين، وقد توقفنا عند الأمور التي يكون فيها التصديق له أجر عظيم، ومنها تصديق المؤذن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ” إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدم، والمؤذن يغفر له مد صوته، ويصدقه من سمعه من رطب ويابس، وله مثل أجر من صلى معه ” رواه أحمد، وكذلك من الأمور المهمة أن القاضي ينبغي أن يتحرى صدق أصحاب الأقوال، وأن المدعين لا يجوز لهم أن يكذبوا، وبعض المدعين قد يخدعون القاضي فيوهمونه بقول الصدق وهم يكذبون فلا يحسب هؤلاء أنهم قد نجوا أو غنموا شيئا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، سمع مرة خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض في الكلام بلاغة وفصاحة فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها “رواه البخاري، وكذلك الطيرة من الشرك، ولكن أصدق الطيرة الفأل كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم “أصدق الطيرة الفأل فالطيرة تشاؤم وهو حرام، أما التفاؤل فهو أصدقها وهو مباح وجائز، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ينبغي أن يستعمل لمعرفة الصدق الأدلة وأقوال الثقات، فلو أخبر إنسان بشيء، فنأتي بالشهداء المعروفين بالصدق، فإن أقروا ما قاله قبل قوله، كما قال البخاري رحمه الله.

“باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض، أي لو أن امرأة طلقها زوجها فعدتها ثلاث حيض، فلو حاضت في شهر ثلاث حيض تخرج من العدة، لكن ينبغي أن تثبت أنها حاضت في الشهر ثلاث حيض، ولذلك قال ولا يصدّق النساء في الحيض والحمل فيما يمكن من الحيض، لقوله تعالى كما جاء فى سورة البقرة ” ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله فى أرحامهن ” ويذكر عن علي وشريح “أن امرأة جاءت ببينة من بطانة أهلها ممن يرضى دينه أنها حاضت ثلاثا في شهر فصُدّقت، وقال عطاء “أقراؤها ما كان” وبه قال إبراهيم” رواه البخاري، إذن، بعض أهل العلم يأخذون بذلك لكن بشرط أن تثبت هذا ممن يعرف حقيقة أمرها من الثقات، ولكن قيل أن هناك مسألة وهى أنها لو أنها أخذت دواء لإنزال الحيض، ثم أخذت دواء لرفعه، ثم أخذت دواء لإنزاله، ثم أخذت دواء لرفعه، ثم أخذت دواء لإنزاله، ثم أخذت دواء لرفعه، هل تخرج من العدة؟ فإن الإجابه لا، لأن هذا تلاعب وتحايل واضح جدا، وكذلك فإن الإنسان المسلم إذا اشتبه عليه أمر أخيه المسلم، فإن جاءه عنه خبر، فإنه يحمل أمر أخيه على أحسنه، وإذا كان هذا الأخ معروفا بالصدق قبلناه، والناس الذين وشوا به وتكلموا عنه إذا كانوا من المجهولين لا نقبل كلامهم، وقد جاء أناس ادعوا على الصحابى الجليل سعد بن أبي وقاص فقال عمر بن الخطاب لسعد رضى الله عنهما “لقد شكوك في كل شيء حتى الصلاة”

قالوا لا يحسن يصلي، قال سعد “أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين، ولا آلو أن أجتهد ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمر “صدقتَ، ذلك ظني بك” رواه البخاري، وهذا معروف بالصدق والمتهمون له مجهولون، أو معروفون بالفسق والكذب فلا يمكن أن نقبل قول الفاسق الفاجر في الثقة الصادق، وإن الصدق مع الله عز وجل تظهر حقيقته في الخوف من الله باطنا وظاهرا، فتكون الحركات والسكنات والتصرفات والتوجهات والإرادات والأعمال والأقوال كلها محكومة بأمر الله سبحانه وتعالى وأمر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، محاطة بسياج المنهج القرآني والهدي النبوي، مراد بها وجه الله، لا تخالطها أهواء نفسية، ولا تخالجها مصالح شخصية، ولا تحكمها نزعات دنيوية، ولا توجهات شخصية، بل الحكم في المنشط والمكره، والمرجع في العسر واليسر، والمرد في الرخاء والشدة، تحقيق شرع الله، وامتثال أمره، وسواء كان ذلك مع الصديق أو مع العدو، أو مع القريب والبعيد، أو مع الغني والفقير، ويقول أبو بكر الصديق رضى الله عنه “لا خير في قول لا يريد به صاحبه وجه الله” ويقول خالد بن الوليد رضي الله عنه “رحم الله عمر، إن أقواله وأفعاله كلها مراد بها وجه الله” إنه الصدق الذي تضمحل معه حظوظ النفوس ومشتهياتها، ففي قصة سقيفة بني سعد، بعد أن اختار أبو بكر الصديق عمر بن الخطاب وأبا عبيدة ليبايعا.

قال عمر “والله ما كرهت من قوله إلا ذلك” ثم قال “والله لأن أقدّم فأضرب فيُضرب عنقي لا يقرّبني ذلك من إثم، أحب إلي من أن أتأمر على قومٍ فيهم أبو بكر” ثم قال “ابسط يدك”، فبايعه ثم بايعه المهاجرون والأنصار، إنه الصدق الذي حدا بالإمام علي بن أبى طالب رضي الله عنه حينما قال أبو بكر في أثناء البيعة وطلب الاعتذار، قال له علي “والله لا نقيلك ولا نستقيلك، قدّمك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذا يؤخرك؟” إنه الصدق الذي حدا بالأنصار أن يقولوا “نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر، قدّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ديننا” أي في الصلاة، وما أروع ما ضربه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من نماذج رائعة في الصدق مع البارئ سبحانه وتعالى بفضل التربية النبوية، والمدرسة المحمدية، فقد ذكر ابن حجر رحمه الله “أن سعد بن خيثمة استهم هو وأبوه يوم بدر فخرج سهم سعد، فقال له أبوه يابني آثرني اليوم، فقال سعد يا أبتى لو كان غير الجنة فعلت، فخرج سعد إلى بدر وبقي أبوه، فقتل بها سعد وقتل أبوه بعد ذلك خيثمة يوم أحد” وكل ذلك بسبب الصدق مع الله عز وجل فنالوا الشهادة التي هي أعظم مطلوب، وقيل أن عمير بن أبي وقاص رُدّ يوم بدر لصغره، فبكى فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم، قال سعد أخوه “رأيت أخي عميرا قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يتوارى حتى لا يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقلت مالك يا أخي؟ فقال إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني ويردني، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة، فصدق وصدقه الله وأعلى درجاته بالشهادة في سبيله” وقيل أيضا أن أنس بن النضر رضي الله عنه، كان يأسف أسفا شديدا لعدم شهوده بدرا، فقال والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليرين الله ما كيف أصنع، وصدق في وعده مع الله، فلما كان يوم أحد مرّ على قوم أذهلتهم شائعة موت النبي صلى الله عليه وسلم، وألقوا بسلاحهم، فقال “ما يجلسكم؟ قالوا قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ياقوم إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد قُتل فإن رب محمد حي لا يموت، وموتوا على ما مات عليه رسول الله” وقال “اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء” ثم لقي سعد بن معاذ فقال “ياسعد، إني لأجد ريح الجنة دون أحد” ثم ألقى بنفسه في صف المشركين وما زال يقاتل حتى استشهد، فوجد فيه بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، فلم تعرفه إلا أخته ببنانه” وكذلك فإن من المجالات المهم فيها الصدق هو البيع والشراء، وما أكثر الكذب الآن، في البيع والشراء، فإن الصدق في البيع والشراء سبب للبركة، قال النبي صلى الله عليه وسلم، البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو قال حتى يتفرقا فإن صدقا وبيّنابين البائع السلعة هل فيها عيب أم لا؟ فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما.

وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما” رواه البخاري ومسلم، والآن الناس يغشون في الحراج، وفي أسواق السيارات وغيرها، ولذلك كثير منهم لا بركة في مكاسبهم، وخصوصاً الذين يشتغلون في معارض السيارات من هؤلاء الدلالين وغيرهم، يقولون: سكر في ماء، وملح في ماء، وكومة حديد، وسيارة لا تفتح ولا تغلق، لا تمشي إلى الخلف ولا إلى الأمام، ثم يقولون: برئت الذمة، وهم يعلمون الخلل الذي فيه، فهذا حرام، ولو رضي المشتري فهو حرام، ونحن في هذا الزمان وهو آخر الزمان، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم، أن الكذب سيفشو فيه، والصدق سيقل، وأن الصادقين سيضطهدون، فقال في الحديث الصحيح ” سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة قيل وما الرويبضة؟ قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة”رواه ابن ماجه ” وفي أمر عامة الناس، وكل أهل البلد، يتكلم في أمرهم الرجل التافه، ولذلك المؤمنون يتحرون الصدق ولا يدفعهم ألم الغربة إلى أن يكونوا مع الكذابين ولو كثر الكذب، ولقد أصبح الكذب الآن من أهون الأشياء عند الناس، وإن بعض الناس يستسهلون الكذب في المزاح ويحسبون أنه مجال للهو، ويختلقون الأخبار من أجله، والإسلام أباح الترويح عن القلوب لكن ليس بالكذب، قال النبي صلى الله عليه وسلم ” أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو مازحا “رواه النسائى.

وقال صلى الله عليه وسلم ” ويل لمن يحدث بالحديث ليضحك منه القوم فيكذب، ويل له ويل له “رواه ابو داود والترمذي والنسائي، والشاهد أن الناس يطلقون الأعنة لأخيلتهم في تلفيق الأضاحيك، ولا يحسون حرجا في إدارة الحديث المفترى المكذوب، ليتندّروا بالخصوم ويسخروا منهم، أو بخلق الله، وهذا اللهو بالكذب حرام ولا شك فيه، وقد يلجأ الإنسان للكذب للتملص من خطأ وقع فيه، وهذا غباء وهوان، وهو فرار من شر إلى شر أشد منه، فالواجب أن يعترف بخطئه فلعل صدقه ينجيه ويكون سببا في مسح هفوته، ومما يروى عن الحجاج هذا الظالم الباغي الفاجر أنه كان إذا صدقه الخصم عفا عنه، ومن الأسباب التي تدفع إلى الكذب هى الديون، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم، يدعو في الصلاة ويقول “اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا ومن فتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم” وهذا الحديث كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم، أيضا في الصلاة” أعوذ بك من المأثم والمغرم” فقال له قائل ما أكثر ما تستعيذ من المغرم، فقال “إن الرجل إذا غرم حدّث فكذب ووعد فأخلف “رواه البخاري ومسلم، وهذا حال المديونين من الناس، فإنهم يقولون غدا سوف أعطيك، وهو كذاب ويعده إلى الوقت الفلاني وهو كذاب، وكذلك فإن من أعظم الكذب الكذب على الله بتحليل ما حرمه أو بتحريم ما أحله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock