دين ودنيا

مكارم الأخلاق وبناء الحضارات ” الجزء العاشر “

إعداد / محمـــد الدكـــروى

ونكمل الجزء العاشر مع مكارم الأخلاق وبناء الحضارات، وإنه يمكن تبين أهمية الأخلاق في الإسلام من عدة أمور، منها أن جعل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الغاية من بِعثته الدعوة للأخلاق، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قال “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق” ولقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب أهمية الخُلق، بالرغم من أنه ليس أهم شيء بُعث النبي صلى الله عليه وسلم من أجله فالعقيدة أهم منه، والعبادة أهم منه، ولكن هذا أسلوب نبوي لبيان أهمية الشيء، وإن كان غيره أهم منه، فإن قال قائل ما وجه أهمية الخُلق حتى يقدم على العقيدة والعبادة؟ فالجواب هو إن الخُلق هو أبرز ما يراه الناس، ويدركونه من سائر أعمال الإسلام فالناس لا يرون عقيدة الشخص لأن محلها القلب، كما لا يرون كل عباداته، لكنهم يرون أخلاقه، ويتعاملون معه من خلالها لذا فإنهم سيقيِّمون دينه بِناء على تعامله، فيحكمون على صحتِه من عدمه عن طريق خُلقه وسلوكه، لا عن طريق دعواه وقوله، وقد حدثنا التاريخ أن الشرق الأقصى ممثلا اليوم في إندونسيا والملايو والفلبين وماليزيا، لم يعتنق أهلها الإسلام بفصاحة الدعاة، ولا بسيف الغزاة، بل بأخلاقِ التجار وسلوكهم، من أهل حضرموت وعمان وذلك لما تعاملوا معهم بالصدق والأمانة والعدل والسماحة، وإن مما يؤسف له اليوم أن الوسيلةَ التي جذبت كثيرا من الناس إلى الإسلام هي نفسها التي غدت تصرف الناس عنه وذلك لما فسدت الأخلاق والسلوك، فرأى الناس تباينا بل تناقضا بين الادعاء والواقع.

وكذلك من أهمية الأخلاق هو تعظيم الإسلام لحسن الخلق لم يعد الإسلام الخلق سلوكا مجردا، بل عده عبادة يؤجر عليها الإنسان، ومجالا للتنافس بين العباد، فقد جعله النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أساس الخيرية والتفاضل يوم القيامة، فقال ” إن أحبكم إلي، وأقربكم مني في الآخرة مجلسا، أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة أسوؤكم أخلاقا الثَرثارون المتفيهقون المتشدقون وكذلك جعل أجر حسن الخُلق ثقيلا في الميزان، بل لا شيء أثقل منه، فقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم “ما من شيء أثقل في الميزان مِن حُسن الخُلق” وتعتبر الأخلاق هي الضامن الوحيد لاستمرارية الحياة على سطح الكرة الأرضية بسلام ومودة ومحبة، وهي الضامن أيضا لاستمرار النهضة، فانعدامها يعني الدمار والخيبة والخسران، ليس على الإنسان فقط، بل تنعكس آثارها السلبية على المجتمع، بل تؤدي إلى تضرر جميع المخلوقات والكائنات وأشكال الحياة أيضا، وهي عملية تراكمية بامتياز، متنوعة مصادرها، فقد يستمد الناس أخلاقهم من العادات والتقاليد والأعراف المتبعة، وقد يقوم الدين أخلاق الناس، من خلال إضافة الأخلاق الحميدة، ومحو الأخلاق السيئة التي نشؤوا عليها، لهذا فالأديان ضرورية جدا للنواحي الأخلاقية، إضافة إلى وظيفتها الرئيسية الأخرى، والمتمحورة حول تعريف الناس بخالقهم وربهم المعبود، وكذلك فإن التفاوت الأخلاقي بين الناس موجود، نظرا لاختلاف البيئات التى ترعرعوا فيها، ونظرا أيضا لاختلاف أهميتها عند الناس، فبعض الناس يضربون بها عرض الحائط .

ويعتبرونها معيقا للطموح والتقدم والنجاح، فهم بذلك يدوسون على إنسانيتهم وعلى من حولهم، حتى يستطيعوا الوصول إلى أهدافهم وغاياتهم الدنيئة الرخيصة، والتي ستسبب لهم ولمن حولهم الهلاك والخسران، ولطالما عانت الحضارات والبشرية والدول والشعوب من انعدام الأخلاق عند ساستها وقائديها، ومن يتولون أمورها ويديرونها، فقد أدى ذلك إلى طحن العديد من البشر برحى الموت، وآخرها ومن أكبرها ما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية، من دمار وخراب اجتاح العالم أجمع، وقضى بسببه ملايين الناس والبشر، كما تتنوع الأخلاق لتشمل العديد من الشمائل، مثل الصدق، والأمانة، وحب الغير، والحرص على الناس، وعلى أموالهم، وحيواتهم، وممتلكاتهم، وأعراضهم، كما تشمل أيضا الابتعاد عن الغيبة والكلام الفاحش، والإخلاص في العمل، والنزاهة، ومكارم الأخلاق قطعا لا يمكن عدها ولا إحصاؤها، ولكن أعظم البشر أخلاقا على الإطلاق هم الأنبياء والرسل الكرام عليهم السلام فهم حازوا عليها وجمعوا الأخلاق الحسنة وابتعدوا عن الأخلاق السيئة، يليهم المتدينون بصدق والعارفون بالله، وأصحاب الأرواح العظيمة، حتى لو كانوا غير متدينين، والسبب في اجتماع الأخلاق الحميدة مع التدين الصادق والعميق، هو أن المتدين يسعى للوصول إلى الكمال المطلق، وكلما ارتقى أكثر في تدينه ومعرفته بالله كلما عظمت أخلاقه، لهذا كله فالرسل الكرام هم أعظم البشر أخلاقا، لأنهم أعرف الناس بالله، وإن الأخلاق العظيمة سبب في محبة الله للعبد، وإذا أحبك الله وفقك وسددك وأعانك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقا” رواه الحاكم والطبرانى وإن أخطر شيء على أخلاق الناس هو هذه الدنيا بمتاعها ومغرياتها، بزخارفها وشهواتها مِن النساء والبنين، وإن الغلو في حب الدنيا هو رأس كل خطيئة، والتنافس عليها أساس كل بلية، وإن من أجل متاع الدنيا يبيع الأخ أخاه، ويقتل الابن أباه، ومن أجلها يخون الناس الأمانات وينكثون العهود، ومن أجلها يجحد الناس الحقوق وينسون الواجبات، ولكن الكل مشتاق إلى الجنة، بل الكل يطمح إلى أعالي الجنان، لأن الجنة درجات، فمن أراد قصرا في أعلى الجنة فليحسن خلقه، فلقد قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم “أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه” رواه أبو داود والطبراني والبهقي وحسنه الألباني، فإن أكثر ما يدخل الناس الجنة شيئان اثنان مهمان، تقوى الله وحسن الخلق، فتقوى الله وحسن الخلق سببان رئيسيان لدخول الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال “سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال صلى الله عليه وسلم ” تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال صلى الله عليه وسلم الفم والفرج” رواه الترمذي وأحمد وابن حبان وحسنه الألباني، وإن ما يوفق لهذه الأخلاق وهذه الخصال الحميدة إلا الذين صبروا نفوسهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحب الله تعالى، فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته .

وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان؟ فإذا صبر الإنسان نفسه، وامتثل أمر ربه، وعرف جزيل الثواب، وعلم أن مقابلته للمسيء بجنس عمله لا يفيد شيئا، ولا يزيد العداوة إلا شدة، وأن إحسانه إليه ليس بواضع قدره، بل من تواضع لله رفعه، هان عليه الأمر متلذذا مستحليا له، لكونه من خصال خواص الخلق التي ينال بها العبد الرفعة في الدنيا والآخرة، التي هي من أكبر خصال مكارم الأخلاق، ولا عجب أن رأينا أحد محققي علماء الإسلام مثل شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله يقول “الدين هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلُق، زاد عليك في الدين” وإن من خصائص مكارم الأخلاق هو عدم الحكم على الأفعال من ظاهرها فقط، وإنما النظرإلى النوايا والمقاصد، وذلك اقتداء بقول النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم “إنما الأعمال بالنيات” وأن يكون هناك توازن بين مطلب الروح والجسد، حيث يشبع الإنسان رغباته بما يتناسب مع الإطار الشرعي، وكذلك إطار الأخلاق، فقال الله سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم “قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق” وكذلك فإن الاخلاق الإسلامية تتصف بالسهولة والمرونة، كما وأنها صالحة لكل مكان وزمان، وإن مبادئ الأخلاق تقوم على نفع العقل وإرضاء القلب وتقود الإنسان إلى الطريق الصحيح الذي فيه السعادة والخير وراحة النفس، فما أجمل أن يتحلى شبابنا في المجتمعات العربية والإسلامية بهذه الأخلاق الحميدة، وخصوصا في زمننا هذا الذي انتشرت به التكنولوجيا الحديثة، وطغت بشكل كبيرعلى هذا العالم وحولته إلى بؤرة صغيرة.

وكذلك تداخل الثقافات والعادات الغربية على مجتمعاتنا العربية، لذلك يجب الحث دائما على الاقتداء والتمسك بهذه الاخلاق، التي تحفظ شبابنا ومجتمعاتنا من الوقوع في المعاصي والجهل، كما ونرتقي بها ونتميز أمام الشعوب الأخرى، ويصف عالم الاجتماع جيراد الأخلاق في المجتمع فيقول أن الأخلاق لا تطور نفسها بدون الفلسفة الأخلاقية وعلم الاجتماع وعلم النفس، إذ توجد الأخلاق في المقام الأول في التفاعل بين الفرد والمجتمع، وهناك علاقة بين علم الاجتماع والأخلاق، ويعد علم الاجتماع أساسا للأخلاق لأنه يفسح المجال لتطوير الحياة البشرية والفردية والاجتماعية لخلق ثراء أكبر وانسجام أكبر في المجتمع، ومن خلال التفاعل مع الإنسان، يمكن للأخلاق أن تساعد الناس على بناء الثقة والعلاقة الحميمة في المجتمع، وهذا يظهر أهمية الأخلاق في المجتمع، وكذلك فإن للأخلاق أثر واضح على بناء المجتمع والإنسان، فهي مقياس على مدى صلاحيته، وعلى مدى الالتزام بالمكارم والصفات الحسنة، خاصة أن الأخلاق تساهم بشكل كبير في دفع المجتمع ليكون مجتمعا فاضلا، وإن أثر الأخلاق على المجتمع يظهر فى قلة المشكلات حيث تساهم الأخلاق في قوة البنية الداخلية للمجتمع، والحد من حدوث المشاكل داخل الأسرة، كما أنها تقلل من وقوع الجرائم في المجتمع لأنها بمثابة رادع للإنسان، وهي اللبنة الأساسية التي ترتكز عليها المثل العليا للوصول إلى الأمن والأمان الذي تنشده المجتمعات والحد من الجرائم، لهذا فإن أساس تطور المجتمعات وسموها هو وجود الأخلاق الفاضلة التي تترك الأثر الطيب فيها.

أما انعدام الأخلاق في المجتمع فيعني دماره وتحوله إلى غابة لا يوجد فيها أي رادع أو قانون، وكذلك من الآثار الطيبه للأخلاق هو انتشار المحبة والسلام حيث أن من أهم آثار الأخلاق الحسنة أنها تساهم في نشر المحبة والألفة والسلام بين الناس، لأنها تجبر صاحبها على احترام الآخرين وعدم المساس بحقوقهم وأعراضهم، وكما أن انتشار المحبة والسلام نتيجة أساسية للتحلى بالأخلاق التي يساهم في نشر العدل وبث الطمأنينة، والتخلص من كل ما يسبب الأذى للناس، وهي أكبر رادع للإنسان كي يكون صالحا يدعو للخير والإصلاح، وينهى عن المنكر والفحشاء والبذاءة، سواء بذاءة الأقوال أم بذاءة الأفعال، لهذا فإن الأخلاق تحمي النسيج الاجتماعي وتعزز تطوره نحو الأفضل، وكذلك من آثارها الطيبه هو زيادة الكفاءة في العمل حيث تسعى الأخلاق إلى التخلص من كل العادات السيئة التي تمنع تطور العمل، إذ تعمل على رفع كفاءة الأعمال لأنها تمنع صاحبها عن الرشوة والكذب والتزوير، وتزيد من الإنتاجية، وتدعو إلى إتقان العمل لأن كل هذا يعد من الأخلاق الفاضلة التي تحتم على صاحبها الالتزام بتطبيق أخلاقه في عمله، فالمعلم الذي يتصف بالأخلاق الحسنة يساهم في إخراج جيل مسلح بالعلم والأدب والأخلاق، وكذلك بناء روابط الثقة والأمان في المجتمع حيث تعمل الأخلاق على بناء روابط الأمان والثقة في المجتمع، فيشعر الفرد بأنه آمن ويستأمن على أمواله ونفسه وأملاكه وأراضيه، ويشعر بينه وبين نفسه بالثقة بكل من حوله فيأمن غدرهم ومكرهم لأنه يعلم أن الأخلاق تمنع الغدر والخيانة والظلم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock