دين ودنيا

فى طريق النور ومع القرآن الكريم ” الجزء الثالث “

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الثالث مع القرآن الكريم، وقد توقفنا عند السر الذي جعل الصحابة الكرام يرجعون من الحبشة بعد هجرتهم الأولى لما بلغهم الخبر بأن المشركين سجدوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وظنوا أنهم آمنوا بالله عز وجل فعادوا إلى مكة ولكنهم عندما رفعوا رؤوسهم جميعا أنكروا ما فعلوه وما صنعوه ولكنه القرآن الذي صدع عناد الكفر في رؤوسهم، فسجدوا جميعا لله من جلال القرآن وروعته وعظمته، وهذا الوليد بن المغيرة والد فارس الإسلام وسيف الله المسلول والد خالد بن الوليد كان متعنتا متكبرا منكرا فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعرض عليهم الملك والجاه والسلطان حتى يرجع إلى دين آبائه وأجداده، وقد قرأ عليه النبي آيات جليلة من القرآن الكريم قال الوليد كلماته الخالدة في حق القرآن، والحق ما شهدت به الأعداء، قال الوليد والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، وهذا هو الصحيح هذه هي الكلمات الصحيحة وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، فكانت هذه شهادة كافر عنيد للقرآن فلما انطلق بهذه الكلمات للمشركين قالوا إذا صدق والله الوليد إذا لتصبأن قريش كلها وعاد حتى لا تضيع زعامته في القوم ففكر وقدر الأمر من جميع جوانبه ثم عاد ليعلن شهادته الظالمة في حق النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا عتبة بن ربيعة لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته بين الناس، جعلت قريش تحاول حربه بكل سبيل، وكان مما بذلته أن تشاور كبارها في التعامل مع دعوته صلى الله عليه وسلم وتسارع الناس للإيمان به، فقالوا أنظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه، فقالوا ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا أنت يا أبا الوليد، وكان عتبة سيدا حليما، فقال يا معشر قريش أترون أن أقوم إلى هذا فأكلمه، فأعرض عليه أمورا لعله أن يقبل منها بعضها، قالوا نعم يا أبا الوليد، فقام عتبة وتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليه، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بكل سكينة، فلما وقف عتبة بين يديه، قال يا محمد، أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم تأدبا مع أبيه عبد الله، فقال أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت صلى الله عليه وسلم تأدبا مع جده عبد المطلب، فقال عتبة فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عِبت وإن كنت تزعم أنك خير منهم، فتكلم حتى نسمع قولك، وقبل أن يجيب النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة ثار عتبة.

وقال إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى وكان عتبة متغيرا غضبانا، والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت يستمع بكل أدب، وبدأ عتبة يقدم إغراءات ليتخلى النبي صلى الله عليه وسلم عن الدعوة، فقال أيها الرجل إن كنت جئت بالذي جئت به لأجل المال، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، وان كنت إنما بك حب الرئاسة، عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسا ما بقيت، وإن كان إنما بك الباه والرغبة في النساء، فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا، وان كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن تراه، لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يتداوى منه، ومضى عتبة يتكلم بهذا الأسلوب السيء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرض عليه عروضا ويغريه، والنبي صلى الله عليه وسلم ينصت إليه بكل هدوء، وانتهت العروض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، من ملك ومال ونساء وعلاج من جنون وسكت عتبة وهدأ.

وهو ينتظر الجواب، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره إليه وقال بكل هدوء، وقال صلى الله عليه وسلم أفرغت يا أبا الوليد؟ ولم يستغرب عتبة هذا الأدب من الصادق الأمين بل قال باختصار نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسمع مني، قال أفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ آيات من سورة فصلت ” بسم الله الرحمن الرحيم ” حم، تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون، بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ” ومضى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلوا الآيات وعتبة يستمع، وفجأة جلس عتبة على الأرض، ثم اهتز جسمه، فألقى يديه خلف ظهره، واتكأ عليهما، وهو يستمع. ويستمع والنبي صلى الله عليه وسلم يتلو، ويتلو، حتى بلغ قوله تعالى من سورة فصلت ” فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ” فانتفض عتبة لما سمع التهديد بالعذاب، وقفز ووضع يديه على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليوقف القراءة، فاستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتلو الآيات حتى انتهى إلى الآية التي فيها سجدة التلاوة، فسجد، ثم رفع رأسه من سجوده، ونظر إلى عتبة وقال صلى الله عليه وسلم سمعت يا أبا الوليد؟ فقال نعم.

فقال صلى الله عليه وسلم فأنت وذاك، فقام عتبة يمشي إلى أصحابه وهم ينتظرونه متشوقين، فلما أقبل عليهم، قال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم، قالوا ما وراءك يا أبا الوليد؟ فقال ورائي أني والله سمعت قولا ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا السحر، ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، ولو تأملنا حال الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين مع القرآن الكريم لوجدنا أنهم لم يكتفوا بالقراءة أو الاستماع فقط، بل قرأوا وتدبروا، فتعلقت به قلوبهم، وارتبطت به نفوسهم، فكانوا يطبقونه قولا وعملا، يأتمرون بأوامره، ويبتعدون عن نواهيه، لذلك بلغوا ما بلغوه من الفضائل والرفعة بفضل العمل بالقرآن الكريم، واستجابة لأوامره، لقد حفظ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سورة البقرة في ثماني سنوات ليس لبطء في حفظه ولكن لأنه كان يحرص على العلم والعمل معا، ويقول أبو عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه ” كنا إذا تعلمنا العشر من القرآن لم نتعلم العشر التى بعدها حتى نتعلم حلالها وحرامها وأمرها ونهيها “

وكانت الآية تنزل فيقرأها النبي صلى الله عليه وسلم فتتحول في التو واللحظة إلى واقع، وكان الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، يفقهون آيات القرآن الكريم ويتعايشون معها وجدناهم يسارعون إلى طاعة أوامر الله عز وجل واجتناب نواهيه، فقد كان الصحابة فى المدينة يشربون الخمر ولم تحرم بعد، فلما دخل صحابي عليهم، وكؤوس الخمر بينهم نزلت آيات النهي عن شرب الخمر ونادي منادى ” ألا إن الخمر قد حُرّمت” وقرأ عليهم قول الله تعالى من سورة المائدة ” يا أيها الذين أمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ” فلما قرأ الآية عليهم تجاوبوا جميعا مع القرآن والله ما أكمل صحابي جرعة الخمر في يده ما قال نكمل هذه الجرار، وهذه الكؤوس وننتهي لا بل كان من في يده شيء من الخمر رماه، والذي كان في فمه شربة مجّها، والذي كان عنده خمر في أوان أراقها، وكل ذلك هو استجابة لأوامر القرآن الكريم، وقام أنس بن مالك فسكب آنية وجرار الخمر وسكب الصحابة الخمر في الشوارع حتى سالت في طرقات المدينة وامتلأت بها سكك المدينة وقالوا انتهينا يا ربنا، وقالوا على لسان رجل واحد كما قال الله تعالى فى سورة البقرة.

” سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ” وكذلك حين نزل قول الله تعالى من سورة آل عمران ” لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شئ فإن الله به عليم ” فقام الصحابى الجليل أبو الدحداح إلى أجمل حديقة عنده وأحبها إليه وتصدق بها، ومن هنا استطاع الصحابة الكرام رضي الله عنهم حفظ كتاب الله لأنه لم يكن بالنسبة لهم مجرد كلمات، بل كان منهجا تربويا سلوكيا إيمانيا ظهر في تعاملاتهم فيما بينهم، بل ومع غيرهم، ويقول الله تعالى فى كتابه العزيز فى سورة طه ” قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدوا فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمي ” فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في هذه الآية أنه تكفل الله تعالى لمن اتبع هدى الله أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، والمعنى هو أن من اتبع الهدى واستقام على الحق الذي بعث الله به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يضل في الدنيا بل يكون مهتديا مستقيما ولا يشقى في الآخرة بل له الجنة والكرامة، وهدى الله هو ما دل عليه كتابه العظيم وهو القرآن وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، من فعل الأوامر وترك النواهى.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock